حكم السنة العرب العراق ثمانين عاماً، بدأت عام 1921، وانتهت عام 2003 باحتلال الولايات المتحدة الأميركية العراق.

بدأت بتنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، وانتهت بإسقاط صدام حسين الذي حكم العراق ثلث مدة الثمانين عاماً. كانت الفترة الأولى التي استمرت 38 عاماً، حكماً ملكياً كرسه البريطانيون، والفترة الثانية بدأت بالنظام الجمهوري الذي خضع لتحولات مختلفة ومتباينة طوال أكثر من أربعة عقود من الزمن حتى سقوط نظام «البعث» الذي حكم العراق 35 عاماً.

بعد عام 2003 جاء الأميركان بوصفة المكونات بوصفها العلاج الوحيد والناجع مثلما رأوا، سواء عبر ما كانوا قد خططوا له أو من خلال استشارات جاءتهم ممن كان معهم من بعض زعامات المعارضة العراقية.

ووفقاً لوصفة المكونات بدأت تتكرس الزعامات على الأسس المكوناتية نفسها (العرقية، والطائفية). ولأن الجغرافيا هنا حاكمة، فإن التصنيف المكوناتي للعراق والذي انسحب تالياً على توزيع المناصب السيادية (الرئاسات الثلاث: الجمهورية والوزراء والبرلمان)، بدا سلاحاً بحد واحد لا حدين، ويتمثل في إمكانية تقسيم العراق بسهولة بدءاً من الفيدرالية إلى ربما كونفدرالية في مراحل لاحقة، ما دامت تراجعت هوية المواطنة الواحدة الجامعة لصالح تكريس الهويات الفردية والثانوية والفئوية.

لجهة الجغرافيا، فإن العراق مقسم إلى شمال كردي، ويتمثل الآن بإقليم كردستان الذي يحكم وفق الدستور المحافظات الثلاث «أربيل، والسليمانية، ودهوك»، ويتطلع إلى ضم كركوك وباقي المناطق المتنازع عليها وفق المادة (140) من الدستور العراقي. ووسط وجنوب شيعي وغرب وشمال غربي سني.

وانطلاقاً من هذه الجغرافيا التي تأثر بها تاريخ العراق كثيراً وباتت في مراحل كثيرة حاكمة عليه، فإن التقسيم المكوناتي للمواقع السيادية العليا في البلاد أوجد مفهوم الزعامة المكوناتية وكرسها طوال العشرين عاماً الماضية. وطبقاً لهذه الترسيمة التي ليس لها سند دستوري، وهذه ربما من حسنات الدستور العراقي القليلة جداً، فإن منصب رئيس البرلمان العراقي يمثل سنة العراق ويحتل موقع الزعامة بينهم. ومع أن الترسيمة هذه تنطبق بالمجمل على الشيعة والكرد، لكن مفهوم الزعامة الشيعية ـ الكردية يحكمه منطق آخر يتمثل كردياً في الزعامة العشائرية المكرسة للأسرة البارزانية، في حين يتمثل شيعياً في الزعامة الدينية التي تمثلها مرجعية النجف بالدرجة الأولى، في حين يمثل منصب رئيس الوزراء رمزيتها السياسية بوصفه المنصب الجامع لكل الشرائط وبيده كل السلطات، مما يجعل منصبي رئاسة الجمهورية المحسوم للكرد، والبرلمان المحسوم للسنة، عرفاً أيضاً دون سند دستوري، مجرد مناصب لا دور رئيسياً لها بالقياس إلى منصب رئيس البرلمان.

رمزية المناصب وواقعيتها

وللتدليل على ذلك، فإنه في حال شغر منصب رئيس الجمهورية لا يمثل أزمة للكرد؛ لأن الزعامة خارج حدود هذا المنصب؛ أي إن منصب رئيس الجمهورية يحتله كردي في بغداد، لكن الزعامة الكردية في أربيل. الأمر نفسه ينطبق على منصب رئيس الوزراء؛ إذ إن الخلاف بشأنه يبقى محصوراً في حدود التنافس على المنصب من قبل القوى السياسية الشيعية لا في منطق الزعامة الشيعية.

وفي عام 2014 حصلت واقعة لافتة على هذا الصعيد حين أريد التمديد لولاية ثالثة لرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.

وبالرغم من احتدام التنافس بين القوى الشيعية، بل داخل حزب «الدعوة» نفسه الذي كان لديه مرشحان هما نوري المالكي وحيدر العبادي الذي كان قيادياً في الحزب، فإن من حسم أمر تنحية المالكي وعدم التجديد له والمجيء بالعبادي رئيساً للوزراء، رسالة من المرجعية العليا في النجف بناء على سؤال تم توجيهه إليها، فكان الجواب… ضرورة المجيء برئيس وزراء جديد، لكن في الوضع السني بسبب عدم حصر الزعامة السنية لا داخل مشيخة عشائرية مثل كردستان، ولا زعامة دينية مثل الشيعة، فإن من يحتل منصب رئيس البرلمان تثنى له ولو رمزياً وسادة الزعامة السنية.

هذه الإشكالية تبدو الآن هي الأكثر بروزاً بعد إقالة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي بقرار من قبل المحكمة الاتحادية العليا؛ فبسبب عدم وجود زعامة سنية يحتكم إليها المتخاصمون السنة ممن يمثلون في البرلمان العراقي المحافظات الغربية ذات الأغلبية السنية، وهي التي تحدد أرجحية من يكون في هذا الموقع المهم، فقد بدأ التزاحم على المنصب من قبل مختلف القيادات والقوى السنية.

ومع أن التنافس هنا طبقاً لقواعد اللعبة الديمقراطية طبيعي ومشروع، لكنه من جانب آخر يمثل خطراً متزايداً على تراجع دور السنة في عملية صنع القرار؛ فالمرشحون السنة لا يكفي أن يكونوا مرشحين لكي يفوز أحدهم برئاسة البرلمان بعد حصوله على النصف زائد واحد من عدد أعضاء البرلمان العراقي البالغ عددهم 329 نائباً، أكثر من نصفهم من الشيعة، بل لا بد لهم من تحالفات مع القوى السياسية الأخرى، وفي المقدمة منها القوى الشيعية، الأمر الذي يعني أن أي مرشح لا بد أن يكون مقبولاً من قبل تلك القوى، وهو ما يعني ضمناً قبوله بالعديد من توجهاتها.

يحصل هذا بالنسبة للسنة بسبب عدم وجود وحدة قرار لهم نتيجة غياب الزعامة الجامعة، في حين أن الأمر مختلف بالنسبة للقوى الشيعية على الأقل؛ ففي الوقت الذي يحتاج أي مرشح سني للحصول على هذا المنصب رضا وقبول القوى الشيعية، فإن الشيعة لا يحتاجون السنة حين يختارون من بينهم رئيساً للوزراء.