أحد الاتجاهات المالية الأكثر إثارة للاهتمام والتي اكتسبت شعبية في السنوات الأخيرة هي حركة إلغاء الدولرة. إن إلغاء الدولرة هو جهد يبذله عدد متزايد من الدول لتقليص دور الدولار الأميركي في التجارة الدولية، إذ تسعى دول مثل روسيا والهند والصين والبرازيل وماليزيا، من بين بلدان أخرى، إلى إنشاء قنوات تجارية باستخدام عملات أخرى غير الدولار. فقد قامت الصين وروسيا بإلغاء الدولار في أكثر من 90% من تجارتهما الثنائية، واستخدمتا بدلاً من ذلك الروبل واليوان، كما وقعت الصين والبرازيل على اتفاقية لإسقاط الدولار في التجارة، وتسوية الأمر باليوان والريال. وتعهدت روسيا وإيران بإزالة الوسيط الدولار من تجارتهما الثنائية. حتى رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) أبرمت اتفاقيات لإلغاء الدولار في التجارة الإقليمية.

ورغم تراجع هيمنة الدولار في السنوات الأخيرة، فإنه لا يزال يمثل 59% من احتياطيات النقد الأجنبي الرسمية كما في النصف الأول من العام الجاري2024. وتجدر الإشارة إلى أن الهند كانت قد رفضت مؤخراً التخلي عن الدولار في إطار البريكس بسبب مصالحها الاقتصادية مع الولايات المتحدة ومخاوفها من النفوذ الصيني، بينما تسعى للحفاظ على التوازن الدقيق بين مصالحها الاقتصادية.

وفي رد قاس على مواقف تلك الدول، تعهد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بجعل الأمر مكلفا للدول التي تتخلى عن استخدام الدولار الأميركي في معاملاتها التجارية. وقال سنفرض على هذه الدول رسوما جمركية بنسبة 100% على سلعها القادمة للولايات المتحدة. وأشار إلى أن الدولار كان تحت حصار كبير على مدى 8 سنوات، وأكد تعهده بأنه يريد أن يظل الدولار عملة الاحتياطي العالمية.

ولكن هل التخلي عن الدولار يشكل تهديداً فعلياً للولايات المتحدة الأميركية والأسواق العالمية؟

تشير البيانات إلى أن أكبر اقتصاد في مجموعة البريكس هو الصين، التي تتفوق على الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم في عام 2017، استنادًا إلى بيانات صندوق النقد الدولي، على أساس تعادل القوة الشرائية. واليوم، تعد الصين الشريك التجاري الأول لغالبية دول العالم. في غضون عقدين فقط، تضاعفت حصة الصين في التجارة العالمية بأكثر من ثلاثة أضعاف، من 4% فقط في عام 2001 إلى أكثر من 14% في عام 2021.

ومع النمو السريع للاقتصاد الصيني، ومع تقدم قدراته التصنيعية، وحجم تجارته وشبكة أسواقه العالمية، فإن القيام بإلغاء الدولار من تجارته الدولية قد تكون له آثار بعيدة المدى على الاقتصاد العالمي.

ففي حال تم فرض تعرفة بنسبة 100% على الصادرات الصينية، على سبيل المثال، فلا يمكن للمرء إلا أن يتخيل مدى ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة، وأن الكثير من العجز التجاري للولايات المتحدة سينتقل إلى حلفاء لها مثل المكسيك وكندا. وفي الوقت نفسه، بالنسبة للصين، فإن مثل هذه التعريفات الجمركية المرتفعة من شأنها أن تضر بصادراتها في وقت تعتبر الصادرات قاطرة النمو بالفعل، في وقت كان قطاع التصنيع في البلاد يعاني من الطاقة الفائضة.

على الرغم من أن التحول بعيدًا عن الدولار كعملة احتياطية عالمية غير مرجح في المستقبل القريب، فإن أعضاء مجموعة البريكس يطورون بنى تحتية مالية بديلة لتقليل الاعتماد على الدولار في التجارة الدولية. مبادرات مثل UnionPay في الصين، وUPI في الهند، وSPFS في روسيا توضح هذا الاتجاه.

وعلاوة على ذلك، فإن نظام CIPS الصيني وتعاونه مع نظام SPFS الروسي يمثلان جهودًا لخلق بدائل لنظام SWIFT، مدفوعة بعوامل جيوسياسية وعقوبات، وخاصة في حالة روسيا في أعقاب الحرب في أوكرانيا.

تاريخيًا، كان يتم تداول السلع الأساسية مثل النفط والغاز الطبيعي بالدولار الأميركي، حيث تتم غالبية المعاملات في البورصات الغربية. ومع ذلك، من المتوقع أن يؤدي توسع مجموعة البريكس، التي تضم الآن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران ومصر والأرجنتين وإثيوبيا، إلى تغيير ديناميكيات سوق النفط العالمية، إذ تسيطر مجموعة البريكس+ الآن على 43% من إنتاج النفط العالمي، ولكن هل تجرؤ تلك الدول وخاصة العربية والخليجية على وجه التحديد في التخلي عن الدولار الأميركي، وبعضها يربط عملاته المحلية به؟

وإذا تم تنفيذ هذا الاقتراح بشكل كامل، فمن المرجح أن يخلق صدمة كبيرة في تدفقات التجارة والاستثمار. وقد تذهب دول أخرى للرد بالمثل، مما قد يخلق دوامة من سياسات الإفقار عبر التنافس في خفض قيمة العملات وزيادة التعريفات الجمركية. ومن شأن هذا أن ينعكس سلبيا بالنسبة للمستهلكين على مستوى العالم، حيث سيزيد من التكاليف وسيؤدي إلى انعدام الكفاءة. ومع ذلك، قد يكون من غير المتوقع أن ينفذ ترامب وعوده المتعلقة بأجندته التجارية بالكامل، ولكن قد يذهب الى عقوبات جزئية كنوع من التهديد للدول التي تحاول أو تفكر في المستقبل بالخروج من تحت عباءة الدولار الأميركي.

ويُعتقد أن موقفه المتشدد في السياسة التجارية هو مصمم لزيادة النفوذ في المفاوضات التجارية مع الشركاء والمنافسين الرئيسيين، وخاصة الاتحاد الأوروبي والصين. ويريد ترامب من تهديده انتزاع تنازلات ثنائية من خلال إلغاء القيود المفروضة على السلع والخدمات الأميركية في الخارج، فضلاً عن تأمين الالتزامات للاستثمارات الأجنبية المباشرة الكبيرة للولايات المتحدة الأميركية. وهذا سيكون مماثلاً لنهج ولايته السابقة التركيز بشكل أكبر على الاستثمارات الأجنبية المباشرة، والتي تعد مهمة لخلق الزخم لأجندة إعادة عمليات التصنيع إلى البر الأميركي والنهوض بقطاع التصنيع الأميركي من جديد.

إن الأساس القانوني الذي يستند عليه الرئيس ترامب، لشرعنة الدخول في الحرب التجارية الحمائية، أو الاستمرار فيها، يتجسد في معطيات النصوص المحددة في كل من قانون التجارة الأميركي لسنة 1974 المعدل في 23 آذار ( مارس) 2018، وقانون التوسع التجاري الأميركي لسنة 1962، حيث يمنح قانون التجارة هذا الرئيس الأميركي سلطة اتخاذ جميع التدابير اللازمة، بما في ذلك إجراءات تجارية انتقامية ضد ممارسة أي حكومة، أو دولة أجنبية، نشاطا من شأنه أن يثقل كاهل تجارة الولايات المتحدة، أو يقيدها ُ قانون التوسع التجاري بدورها تخول الرئيس الأميركي فرض التعريفات الجمركية على أي منتج، أو سلعة، تستوردها الولايات المتحدة، ويفترض فيها أن تشكل تهديدا للأمن القومي للولايات المتحدة.

وتجدر الاشارة إلى أن الرؤساء الأميركيين السابقين اعتمدوا على النهج نفسه، والقانون نفسه للشروع في أي انتقام تجاري موجه ضد جهة أجنبية يفترض أنها تقوم بتجارة غير عادلة، أو تخترق حقوق الملكية الفكرية الأميركية، أو أن وارداتها تشكل تهديدا للأمن القومي؛ فعلى سبيل المثال: في عهد الرئيس رونالد ريغان، سنة 1988، طبق المادة (301) من قانون التجارة الأميركي، وفِرضت بموجبها التعريفات الجمركية بنسبة (100%) على مستحضرات صيدلانية، ومواد كيميائية مستوردة من البرازيل، وذلك انتقاما لعدم مراعاتها قانوني الملكية الفكرية، والمعرفة الفنية.

كما أنه في عهد الرئيس جورج بوش الابن، سنة 2001، فُرضت رسوم جمركية بنسبة باهظة على المعادن، والأحذية، والواردات الأخرى القادمة من أوكرانيا؛ بحجة خرقها قوانين حقوق الملكية الفكرية.

بطبيعة الحال، فإن الولايات المتحدة الأميركية تملك من الإمكانيات والوسائل التي تمكنها من اتخاذ أي إجراء بحق أي دولة أو مجموعة من الدول مهما كبُرَ حجمها أو نفوذها العالمي، ولكن الموقف العقلاني الذي ينبغي أن يسود يجب أن يستند الى مصلحة الاقتصاد العالمي والمستهلكين والأسواق، حيث قدرت منظمة التجارة العالمية أن التدابير الحمائية التجارية التي تتخذها بعض الدول يعرض الناتج المحلي الإجمالي العالمي لخسائر تصل إلى 5%.