حرب أمنية موازية تخوضها موسكو ضد عواصم أوروبية منذ بدء الحرب الأوكرانية، تمثّل شكلاً من أشكال الصراع الأوسع نطاقاً بين روسيا والقارة العجوز، يهدف من خلالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اللعب على المعادلات السياسية والأمنية والعسكرية، وفرض واقع جديد يستثمره على طاولات المفاوضات.
ينتهج بوتين سياسة نقل الحرب إلى أرض الخصم من خلال عمليات أمنية لا تتبناها موسكو رسمياً، فتتملّص من مسؤوليتها، لكنها تعيد شبح الحرب إلى أذهان الأوروبيين، وتُشغلهم ببيتهم الداخلي، وهي سياسة مشابهة لتلك التي اعتمدتها أوروبا حينما دعمت أوكرانيا ونقلت المواجهة إلى حدود روسيا الغربية، وتقوم السياسة على قاعدة “الأمن المفقود يقابله استقرار مزعزع”، وتستمد مشروعيتها من العنوان الأكبر، وهو الصراع.
ترصد أوروبا تزايداً في ما تسمّيه “هجمات روسية هجينة”، أو ما يعرّفه فرانك هوفمان من مشاة البحرية الأميركية “العنف العشوائي والفوضى”، فيما تنقل صحيفة “بوليتيكو” عن توماس هالدينوانغ، رئيس وكالة الاستخبارات الاتحادية الداخلية في ألمانيا سابقاً قوله إن “روسيا تستخدم مجموعة الأدوات بأكملها، بدءاً من التأثير على المناقشات السياسية مروراً بالهجمات الإلكترونية على البنية التحتية الحيوية وصولاً إلى التخريب على نطاق واسع”.
لم تتمكّن أوروبا من ردع هذه الهجمات المتزايدة، والتي يتوقّع نيلز أندرياس ستينسونيس، رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية النرويجي، أن تتكثّف وتتركّز على “تخريب” البنية الأساسية للنفط والغاز، ووفق “بوليتيكو”، فإن الاستجابة الجماعية من جانب الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي “هادئة إلى حد ملحوظ”، رغم دق ناقوس الخطر.
توصّف رئيسة الوزراء الدنماركية ميتي فريدريكسن المقاربة الأوروبية للهجمات الأمنية الروسية بدقة، وتقول “نحن مهذّبون للغاية”، فيما يرد دانييل بايمان، الخبير في الإرهاب والحرب غير التقليدية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية مقره واشنطن، السبب إلى عدم رغبة معظم الدول الأوروبية في مواجهة روسيا، وقلقها من التصعيد، كون الحرب الهجينة “هي دورة ذهاباً وإياباً”.
قلق التصعيد متبادل، وبحسب “بوليتيكو”، فإن “حملة زعزعة الاستقرار الروسية محسوبة بعناية حتى لا تؤدّي إلى إثارة استجابة جماعية من حلف شمال الأطلسي بموجب بند الدفاع المتبادل للتحالف العسكري الغربي، والمعروف باسم المادة 5″، ووفق المشهدية العامة، يبدو أن الكرملين يزيد الضغوط ببطء لمعرفة ما يمكن أن “يفلت به”.
ردّت أوروبا على الهجمات الروسية، فأنشأت فرنسا وكالة حكومية لمواجهة التدخّل الرقمي الأجنبي، وشكّل “الناتو” خلية جديدة لتنسيق البنية التحتية تحت الماء لتقييم نقاط الضعف وتنسيق الجهود بين حكومات حلف شمال الأطلسي والقطاع الخاص، كما رسم الاتحاد الأوروبي إطاراً يسمح باستهداف الأفراد والكيانات المتورطة في الحرب الهجينة، لكن ثمّة قناعة بأن الرد لم يردع روسيا، و”شهية” المواجهة غائبة.
أما من جهة الرد العسكري، فإن “الناتو” مكبّل، وبرأي ماريك كوهف، المسؤول السابق في الدفاع والاستخبارات، فإن “المشكلة الكبرى” أنه “لا تعريف واضحاً بين الحلفاء حول ما تعنيه الحرب الهجينة”، فيما يقول الجنرال تييري بوركارد، رئيس أركان الدفاع الفرنسي، لصحيفة “لو فيغارو” إن “أدوات “الناتو” ليست مصممة” للمنطقة الرمادية في “عالم المنافسة والصراع”.
مدير مرصد الدول العربية في باريس أنطوان بصبوص يرى أن أوروبا “استفاقت متأخرة”، ويتطرّق إلى الرد الأوروبي فيقول لـ”النهار” إن بناء شبكة حمائية هو الأساس لكنه يحتاج إلى سنوات، مستبعداً أن تُقابل الحرب الهجينة بعمليات مُشابهة، كون أوروبا “محكومة بالقواعد الدستورية والأخلاقيات السياسية والرقابة والمعارضة”، وكلها عوامل تحول دون الخروج عن القانون والدخول بحرب أمنية استخباراتية.
محلل الشؤون الخارجية، المتخصّص في شأن أوروبا الشرقية وروسيا، أولريتش بونات، يُشير لـ”النهار” إلى أن الاتحاد الأوروبي و”الناتو” لا ينتهجان سياسات “عنفية” ضد روسيا وحربها الأمنية، لكنها تتخذ إجراءات هدفها الحد من قدرة موسكو على التحرّك في العواصم العربية، وذلك من خلال إلقاء القبض على المتهمين بعمليات تخريبية، وطرد دبلوماسيين روس مشبوهين.
أولريتش يُشاطر بصبوص الرأي لجهة استبعاده شن حرب هجينة مُضادة ضد روسيا، وبرأيه، فإن الدول الأوروبية لا تُريد التصعيد ولا تفضّل هذا النوع من المواجهات، لكنها ترهن ردّها بحجم العمليات الروسية المستقبلية، وبحسب معلوماته، فإن ثمّة دولاً أوروبية وجّهت رسائل إلى روسيا مفادها أنها قد ترد سبيرانياً، ولديها وصول إلى شبكات اتصالات داخل روسيا.
وإذ لا يتوقع بصبوص “خروجاً عن التهذيب السياسي والديبلوماسي الأوروبي”، فإن بايمان يميل أكثر نحو إجراءات تصعيدية، وبرأيه، “يتعين على الأوروبيين أن يستجيبوا بطريقة أكثر اتحاداً وقوة، وينبغي تكثيف المساعدات العسكرية لأوكرانيا لإظهار أن الجهود الروسية لها تأثير معاكس”، وبالإضافة إلى تعزيز الإنفاق الدفاعي، تحتاج البلدان إلى تعزيز الأمن الداخلي، بما في ذلك الشرطة وأجهزة الاستخبارات المحلية وتبادل المعلومات بين الحكومات المتحالفة، كما يقول كوهف.
في المحصّلة، فإن الصراع آخذ بالتصاعد بين روسيا وأوروبا، والتسوية بين موسكو وكييف وإنهاء القتال عند الحدود بينهما قد لا يوقف المواجهات الهجينة في أوروبا، كون الاشتباك بينهما أبعد من مجرّد سيطرة جغرافية شرق أوكرانيا، لا بل هو امتداد للحرب الباردة التي لم تنتهِ بمجرّد تدمير جدار برلين.