في رسالته لـ”الأبطال المجاهدين في الميدان”، طرح زعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني، نفسه حامياً للأقليات، وذلك إثر سيطرة الهيئة الجهادية التي فكت ارتباطها شكلياً بـ”تنظيم القاعدة” قبل نحو عشر سنوات، على مدينة حلب في شمال سوريا، نتيجة هجوم مباغت حرك النزاع المجمد الذي عاشته سوريا منذ العام 2016 عندما سيطر النظام السوري على المدينة نفسها بعد معارك عنيفة.
وبدا الجولاني في الرسالة وكأنه ناشط في المجتمع المدني، وليس قائداً لجماعة تحكم باسم الشريعة الإسلامية وتم تصنيفها في لوائح الإرهاب في العواصم الغربية منذ سنوات. إذ لطالما حاول تغيير صورة تنظيمه كخيار مناسب للتعاون مع الغرب في سوريا من جهة، وكجزء من الثورة السورية المدنية من جهة ثانية، وهي ادعاءات لا تنفيها فقط الأيديولوجيا المتطرفة التي يتبناها الرجل وتنظيمه، بل أيضاً ممارسات الهيئة ككل في إدلب طوال السنوات الماضية، حيث حصلت على فرصة لتقديم نموذجها الخاص للحكم.
وفي الرسالة التي تناقلتها وسائل إعلام سورية معارضة، أوصى الجولاني أتباعه بالمدنيين في حلب “من كافة الطوائف” لأن المدينة “كانت ومازالت ملتقى للحضارات والثقافات ولديها تاريخ طويل من التنوع الثقافي والديني وهي تاريخ وحاضر لكل السوريين”، بشكل يتماشى مع خطابه الدائم الذي يتخيل فيه لنفسه مكاناً في سوريا المستقبلية عند الوصول يوماً إلى حل سياسي.
ويشكل هذا الخطاب البديع، صعب التصديق، جزءاً أوسع من محاولات الجولاني تلميع صورته أمام المجتمع الدولي منذ العام 2021 على الأقل، عندما تخلى عن المظهر الديني والعسكري وارتدى بذلة رسمية سوداء خلال لقاء صحافي مع الإعلامي المخضرم مارتن سميث لصالح شبكة “PBS” الأميركية حينها، في مسعى مرجّح للتقرب من الغرب وتقديم نفسه كشخصية يمكن التعامل معها. وقالت “تحرير الشام” في بيان حينها، أن تغيير ملابس الجولاني كان ضرورياً من أجل “فك العزلة”، مدعية أنها القوة الوحيدة التي تمثل الثورة السورية، رغم أن الهيئة كانت تمارس سياسات قمعية بما فيها الاغتيال والاعتقال التعسفي والتعذيب، ضد ناشطين سوريين وصحافيين وأفراد عاديين، من بينهم الصحافي البارز رائد الفارس على سبيل المثال.
وحلب التي تضم كنائس تاريخية وتنوعاً إثنياً واسعاً أيضاً، قد تواجه مصيراً مشابهاً لإدلب وريفها، حيث غادر العدد الأكبر من المسيحيين نحو مناطق سيطرة النظام في سنوات الحرب الأولى، بحسب تقارير إعلامية، فيما حول تنظيم “داعش” آنذاك بعض الكنائس التاريخية إلى مقرات عسكرية من بينها “كنيسة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذوكس” في قرية الغسانية التي حولها إلى معتقل جماعي، وعندما غادر التنظيم البلدة في شباط/فبراير 2014، تبين أن الكنيسة تحولت إلى مقبرة جماعية.
وكانت سياسة الهيئة لاحقاً مع المسيحيين متشددة، إذ مُنعوا، طوال أكثر من عشر سنوات، من إقامة طقوسهم الدينية، فيما أصدرت الهيئة قراراً العام 2020 يقضي بوضع يدها على أملاك المسيحيين الغائبين في محافظة إدلب، والحاقها بـ”مكتب أملاك النصارى” التابع لـ”حكومة الإنقاذ”، علماً أن عدد المسيحيين في أدلب وريفها حتى العام 2011 كان يقدر بنحو 25 ألف شخص.
وبخصوص “التنوع الديني” حاول الجولاني لفترة قصيرة تبني رسالة التعددية والتسامح الديني. وكجزء من تبديد الصورة النمطية عن الجماعة وإلباسها ثوباً جديداً، قام العام 2023 بقمع الفصائل المتطرفة وحل “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وسمح بإقامة قداس في كنيسة كانت مغلقة لأكثر من عقد من الزمن في محافظة إدلب، قبل أن ينقلب على تلك الممارسات بسرعة أمام ضغط المتشددين ضمن الهيئة وخصومها على حد سواء.
وقال الجولاني أمام حشد من القادة الدينيين والمحليين العام 2023 أنه لا ينبغي فرض الشريعة الإسلامية بالقوة. وأضاف: “لا نريد أن يصبح المجتمع منافقاً. يصلي الناس عندما يروننا ويتركون الصلاة بمجرد أن نرحل”، مشيراً إلى المملكة العربية السعودية التي خففت ضوابطها الاجتماعية في السنوات الأخيرة بعد عقود من حكم إسلامي صارم.
لكن ذلك تغير العام 2024 عندما أعادت الهيئة، شرطة الأخلاق إلى الشوارع، على غرار شرطة الحسبة التي أسسها تنظيم “داعش” إبان حكمه لمناطق واسعة في سوريا والعراق قبل سنوات، فيما طرحت الهيئة مطلع العام “قانون الأداب العامة” الذي نص في بنوده على إنشاء شرطة الآداب العامة وفرض الحجاب على الفتيات فوق 12 عاماً ومنع تشغيل الموسيقى ومنع الاختلاط في العمل بين الجنسين وغير ذلك. وطوال الأشهر الماضية، تظاهر السوريون في إدلب عموماً ضد الهيئة وطالبوا بحل الدولة البوليسية التي يديرها الجولاني وإطلاق سراح المعتقلين، لكن الرد الرسمي جاء عبر توسيع جهاز الشرطة وإعطائه صلاحيات أوسع.
وتشترط “هيئة تحرير الشام” منذ سيطرة المعارضة على محافظة إدلب، على من تبقى من المسيحيين فيها، عدم قرع أجراس الكنائس أو إظهار الرموز الدينية أو اقامة فعاليات احتفالية بشكل علني خارج الكنائس والمنازل.
وحتى على الصعيد الإثني، فإن الهيئة منذ نشأتها قدمت نفسها على أنها مدافعة عن الأقليات في الشمال الغربي الذي يغلب على سكانه العرب السنّة، حيث حاولت طرح نفسها على أنها جزء من النسيج الاجتماعي السوري، بعكس تجارب جهادية أخرى كانت أكثر عنفية على الصعيد المحلي مثل “القاعدة”، بشكل يتماشى عموماً مع تطور الجماعات الجهادية بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر وإعلان الحرب على الإرهاب.
وفي العام الماضي مثلاً، قتل أعضاء جماعة مسلحة مدعومة من تركيا، بالرصاص، أربعة رجال أكراد في بلدة جنديرس أثناء قيامهم بإشعال النار احتفالاً بالعام الكردي الجديد. والتقى الجولاني بأهالي الضحايا وسكان أكراد آخرين في المنطقة ووعد بالانتقام من الجناة. لكن ممارسات الهيئة، وفصائل أخرى تجاه الأكراد لم تتراجع بحسب تقارير لمنظمات حقوقية محلية وأممية.
وصنفت واشنطن الجولاني كإرهابي العام 2013، وعرضت مكافأة قدرها 10 ملايين دولار مقابل معلومات تؤدي إلى اعتقاله، علماً أنه برز في الأشهر الأولى من الانتفاضة السورية العام 2011، عندما أصبح زعيم فرع تنظيم “القاعدة” في سوريا، المعروف في ذلك الوقت باسم “جبهة النصرة”. وتوافد متشددون ومسؤولون كبار من “القاعدة” الذي أسسه أسامة بن لادن على قاعدة عمليات الجماعة في شمال سوريا، حيث قُتل العديد منهم لاحقاً في ضربات أميركية.
وفي العام 2017، أنشأت “هيئة تحرير الشام” “حكومة الإنقاذ” لإدارة الشؤون اليومية في المنطقة. في البداية حاولت فرض تفسير صارم للشريعة الإسلامية. وتم تكليف الشرطة الدينية (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بالتأكد من تغطية النساء أجسادهن، مع إظهار وجوههن وأيديهن فقط. وكان أعضاؤها يجبرون المتاجر على الإغلاق أيام الجمعة حتى يتمكن الناس من حضور الصلاة. تم حظر تشغيل الموسيقى، كما تم حظر تدخين النارجيلة في الأماكن العامة.
في ضوء ذلك، يصبح السؤال الأساسي هنا هو كيف يمكن الثقة في رجل مثل الجولاني؟ تماماً مثل السؤال حول إمكانية الثقة برجل كبشار الأسد؟ وكلاهما مجرم حرب في نهاية المطاف، يستخدمان الأسلوب الدعائي نفسه القائم على ترويج صورة محبة الناس لهما من لقاء المحليين، أو قيادة السيارة من دون مرافقة، أو الحديث عن الانفتاح الديني والحريات وغيرها، من دون أن يتحول ذلك إلى واقع فعلي. والجواب هو أنه لا يمكن الوثوق به طبعاً، والمحزن هنا، هو أن قدر الشعب السوري يبدو مراراً وتكراراً، وكأنه محتوم بالاختيار بين الجهادية الإسلامية والديكتاتورية السياسية.