يخطئ كثيراً من يظن انه سيكون من السهل تنظيم العلاقات بين لبنان وسوريا، التي لم تكن يوماً منذ الاستقلال-الانفصال، منتظمة أو طبيعية، وكان التاريخ شاهداً دائماً على اضطرابها، بغض النظر عن شكل الحكم في بيروت ودمشق..وهي اليوم تشهد واحدة من أسوأ مراحل توترها وترديها بين “النظامين” والشعبين، اللذين يعيدان اكتشاف بلديهما من جديد، بعد حقبة صعبة إمتدت نحو نصف قرن وتقاطعت فيها الحروب والغزوات والأزمات التي بدت في معظم الأحيان وكأنها تنفجر في وقت واحد وفي بلد واحد، ولا تعترف بالحدود الدولية التي لم تُرسم بشكل نهائي في بلاد الشام كلها.
التحدي الذي يواجهه لبنان خاصة لم يسبق له مثيل حتى في أصعب ظروف الاجتياح العسكري السوري للأراضي اللبنانية في العام 1976 الذي كان في الأصل تعبيراً صريحاً وواضحاً عن نية النظام الاسدي في دمشق، في استكمال مهمة السيطرة المطلقة على الشقيق الأصغر الذي سبق لحافظ الأسد أن ساهم بتحويل جنوبه الحدودي الى قاعدة عسكرية فلسطينية بديلة عن جبهة الجولان، التي تطلع اليها الفلسطينيون في أعقاب أزمتهم في الأردن، وافترضوا ان دمشق يمكن ان تكون ملاذهم الآمن ومنصتهم للمقاومة، قبل أن يطردهم الأسد منها ويدفعهم الى الهيمنة على لبنان وعاصمته التي ظلت حتى الغزو الإسرائيلي في العام 1982 “عاصمتهم” العربية الوحيدة.
ومنذ ذلك الحين سقط العنصر الفلسطيني من قائمة الخلافات اللبنانية السورية، ولم يبق منه سوى وجود شعبي رمزي في البلدين معاً. لكن تلك القائمة اعتمدت على أسباب أشد خطورة للخلافات التي انفجرت في مطلع القرن الحالي، عندما حالَ النظام الاسدي دون إقفال جبهة الجنوب اللبناني، وأمدّها بفرص الاستمرار الى ما لا نهاية، أو على الأقل الى ما بعد استعادة الجولان، وعمد الى تصفية التجربة الحريرية التي كانت نقيض تشبصه بلبنان كله، بوصفه القاعدة الامامية التي يمارس فيها كافة مناوراته السياسية والأمنية والاقتصادية.
توقفت تلك المناورات جراء الانسحاب العسكري السوري من لبنان في العام 2005، لكنها لم تتوقف حيث تابع حلفاء الأسد، الآب والابن، اللبنانيين نهجه ومسيرته، بلا هوادة ومن دون أدنى إعتبار للفرصة الذهبية التي حصل عليها لبنان إثر خروج الاحتلال الإسرائيلي الكامل وغير المشروط من الأراضي اللبنانية في العام 2000، وقدم حزب الله نفسه على أنه ورقة ضغط سورية رئيسية ووحيدة على طاولة المفاوضات مع العدو، لا تقتصر على اكتشاف لبنانية مزارع شبعا الحدودية.. حتى بلغت وظيفة الحزب في سنوات الثورة السورية وصار قوة أمن داخلي سوري تحمي النظام وتبطش بمعارضيه السوريين.
لكن التحول الجذري في سوريا الناجم عن فرار بشار الأسد وتحلل نظامه وجيشه الكرتوني، لم يسفر عن تحول جذري موازٍ في طريقة تعامل حكام دمشق الإسلاميين الجدد الذي استحضروا على الفور، أسوأ صفحات التاريخ اللبناني السوري وأشدها إثارة للكراهية والحقد والتباعد بين الشعبين، والتي تعود الى زمن الانفصال والاستقلال، وتحيل معركتهم مع حزب الله الى واحدة من أهم معاركهم مع فلول النظام السابق، وتسقطها على مجمل العلاقات الثنائية، الرسمية والشعبية، وتنسب اليها كل شر لحق بالسوري على يد نظام بشار..غير آبهة بأن الحزب على وشك الزوال، وبأن ثمة عهداً جديداً لم يكن جزءاً من تلك الذاكرة المشتركة بين النظامين اللبناني والسوري.
منذ اللحظة الأولى لتشكل الحكم السوري الجديد، إستعار رموزه اللغة الاسدية، وأحيانا لغة ما قبل الاسدية تجاه لبنان، وما سببه من “صداع مزمن” و”تهديد مديد” لسوريا وشعبها، بغض النظر تماما عن “استضافة” لبنان الجيش السوري على أراضيه طوال نحو ثلاثين سنة إستباح خلالها السكان والعمران والمصارف.. أكثر بكثير مما فعلت ميليشيات حزب الله في الداخل السوري، ومن دون ان يخطر في بال أي لبناني المطالبة بالتعويض عن تلك الاستباحة.
الآن تمثل أمام حكام بيروت ودمشق مشكلة المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية والذين يزيد عددهم على 2400 سجين، سبق ان طلب بشار الأسد إبقاء معظمهم في الأسر اللبناني، حتى من دون محاكمة، وهو ما ينذر بخطر أن يلجأ حكام دمشق مجدداً الى إقفال الحدود مرة ثانية هذا العام، وتلميحاً الى أن حزب الله هو الذي يمنع حكام لبنان الجدد من محاكمتهم وإطلاقهم! مع أن الامر كما يبدو هو مجرد حماقة من جانب الحكومة اللبنانية، التي كان يجب ان تفرج عن هؤلاء المعتقلين وتسلمهم الى دمشق، فور وصول بشار الأسد الى موسكو لاجئاً.
مع ذلك، فإن ما رافق تلك المعضلة من إنذارات وتهديدات سورية رسمية وسياسية، وحتى شعبية، أطلق العنان لموجة غير مألوفة من مشاعر العداء، التي يبدو أنها تحكم كل شأن لبناني سوري، وتوحي بأن الاسدية وباء لا شفاء منه، لا في دمشق ولا حتى في بيروت.
بيروت في 12 / 7 / 2025