·
إحدى السمات الأبرز في الخطاب الدعائي السائد في عالمنا اليوم هي غياب المعايير، وإطلاق الأحكام دون أدنى جهد عقلي في التحليل والتركيب أو البحث والتقصي. يمكن أن يُقال أي شيء، عن أي جهة، وبأي أسلوب، دون حرج أو شعور بالمسؤولية. والأسوأ من ذلك أن هذا الخطاب يُردَّد كما لو كان وحياً منزلاً، حتى نجد أنفسنا مع كل حدث نتعثر بتلال من «القمامة الدعائية» التي تلوّث الوعي الاجتماعي، وترسخ البلاهة، فيصبح أي «صانع محتوى» يُخاطب الغرائز أكثر متابعةً و(تأثيراً) من أفكار أرسطو وكانط وأفلاطون وماركس. ويتجرأ كل منتحل للثورية على منازلة سبارتاكوس وروبسبير وتشي غيفارا. ومن أكثر أدوات هذه التفاهة نجاعة هو تصدير المشكلات إلى الرأي العام باعتبارها مجرد تناقضات ثقافية، وكأن المسألة محصورة بين جماعات «متحضّرة» وأخرى «متخلّفة»، هكذا ببساطة
في هذا السياق، تُختزل الأزمة السورية تارةً في كونها مشكلة دروز، وتارةً أكراد، أو مسيحيين، أو سنة، أو خلافاً بين «الأغلبية السنية» و«الأقليات الطائفية».
لا يتورّع مروّجو هذا الخطاب عن وصم الآخر الثقافي بكل نقيصة: فالأكراد «بويجية» وانفصاليون، والمسيحيون «عبّاد صليب»، والسنة متخلّفون وإرهابيين، والعلويون متحضّرون و«فلول»، والدروز «كذا»… ومن لا تعجبه السلطة الجديدة «فلينقلع»!
كلٌّ يروّج لروايته من موقعه، ولخدمة الجماعة التي ينتمي إليها، ما يكرّس نمطًا من التعميم الأعمى، ويعمّق النزعة القبلية السياسية، ويؤدي إلى المزيد من الانغلاق على الذات، وإلى ردود أفعال تُقصي أي أفق لحوار وطني جامع. بهذا المعنى، يغدو الحديث عن «شعب سوري واحد له قضية واحدة» محض وهم.
في ظل تناغم الإعلام الرسمي مع هذا الخطاب «تحالف الأقليات» ومع غياب فعالية القوى السياسية العابرة للانتماءات التقليدية، يغيب النموذج والمثال والقدوة. ويحدث فراغٌ يسمح لهذا الخواء المعرفي بأن يتمدّد ويتحوّل إلى بديل مزيف يبدو – بدهاء – وكأنه الخيار الوحيد غير القابل للنقاش…..