قدمت بعض الأوساط السياسية في بريطانيا صورة رئيس وزرائها خلال الحرب العالميّة الثانية كأفضل زعيم بريطاني على الإطلاق، وتوّجته بطلًا قوميًا لها، وأنه رجل الدّولة، والقائد العنيد الذي أنقذ بريطانيا والعالم من النازية والفاشية. في المقابل، رسمت أوساط أخرى في العالم صورة معاكسة له، ورأت فيه سياسيًا يمينيًا متعصّبًا عرقيًّا، ولم يتوان عن إرسال الجنود البريطانيين إلى الحروب الاستعمارية، ودافع عن الاستعمار وجرائم الحرب التي ارتكبها، فضلًا عن ممارسة القمع السياسي محليًا، وفي مستعمرات الإمبراطوريّة البريطانية. وكان لتشرشل دور كبير في رسم خارطة الشرق الأوسط، والتأثير على المصير السياسي لدول وشعوب المنطقة، خاصة خلال الحرب العالمية الثانية، حيث بنى سياسته وفق نهج تفتيت وتقسيم القوى المحلية، بهدف إضعافها خدمة للطموحات الاستعمارية البريطانية، إلى جانب الحفاظ على بعض الأصدقاء والخصوم في الوقت نفسه. ولعل عملية التوثيق لتلك المرحلة لها أهمية خاصة، لكنها خطيرة أيضًا، كونها تتطلب إعادة كتابة تاريخ مجتمعات الشرق الأوسط، بناء على رؤية موضوعية فاحصة تسعى إلى فهم وتحليل ما جرى من أحداث بالاعتماد على مصادر متنوعة، وخاصة الوثائق التي تنشر بعد أن ترفع عنها السرية، فضلًا عن المصادر الأخرى.
مدار الحديث هنا ليس شخصية تشرشل، بل تناول مرحلة من تاريخ سورية كان له تأثير كبير فيها، من خلال التركيز على الكيفية التي تعامل وفقها مع الوضع في سورية خلال فترة رئاسته الأولى لحكومة بريطانيا، وذلك باستعراض ما كتبه سامي مروان مبيض في كتابة “سورية في أوراق تشرشل 1940 ــ 1945” (بيروت، دار الريس، 2024)، حيث يورد مواقف تشرشل حيال سورية من خلال أوراقه عندما كان يوجه السياسة البريطانية في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، والعربية على وجه الخصوص، وذلك بالاعتماد على مذكرات تشرشل المنشورة، والأرشيف البريطاني، ووثائق تمكن من الاطلاع عليها، إلى جانب الرسائل التي تبادلها مع الرئيس شكري القوتلي، ومذكرات بعض الساسة والمسؤولين السوريين الذين عاشوا أحداث تلك الفترة، وكانوا فاعلين فيها، مثل جميل مردم بيك، وعمرو الأرمنازي، وحسن الحكيم، ونصوح بابيل، وسواهم، إلى جانب مؤلفات عدد من المؤرخين اهتموا بتلك المرحلة.
“المستغرب تمامًا أن يتم تصوير بريطانيا، ممثلة بتشرشل، نصيرة المظلومين، وأن رؤساء سورية وساستها، في ذلك الوقت، كانوا يستجيرون بها كي تنصرهم”
إذًا، يجري تناول سياسة بريطانيا التي كان ينفذها تشرشل حيال دولة لم يزرها أبدًا خلال حياته، وكانت في تلك الفترة واقعة تحت الانتداب الفرنسي. وكان من المفترض أن يستند المؤلف إلى وثائق من الأرشيف الفرنسي، ومصادر باللغة الفرنسية، كي يضيء ما يتناوله بشكل أفضل، خاصة أن الأحداث التي عصفت بسورية في المرحلة المدروسة كان للفرنسيين دور مباشر وكبير فيها، وبالتفاهم مع البريطانيين. وكانت علاقة تشرشل في سورية تدخل ضمن إطار المماحكات والتفاهمات المرتبطة بالتنافس الاستعماري بين الفرنسيين والبريطانيين، بعد أن حولوا البلاد العربية إلى مناطق نفوذ تقاسموها في ما بينهم ضمن اتفاقيات سرية، أبرزها اتفاقية سايكس بيكو.
غير أن المستغرب تمامًا أن يتم تصوير بريطانيا، ممثلة بتشرشل، نصيرة المظلومين، وأن رؤساء سورية وساستها، في ذلك الوقت، كانوا يستجيرون بها كي تنصرهم، وتردع مستعمرهم الفرنسي، لأنها كانت في حقيقة الأمر دولة إمبريالية استعمارية على المستويات كافة، واستعمرت بلادًا كثيرة، حتى باتت تكنى بالمملكة التي لا تغيب عنها الشمس. كما أن تشرشل رفض زيارة سورية، بالرغم من أنه دعي لزيارتها ثلاث مرات، حسبما يذكر المؤلف، حين دعاه في المرة الأولى عام 1945 الرئيس شكري القوتلي، عندما علم أن رئيس وزراء بريطانيا العظمى ينوي التوجه إلى منتجع يالطا في شبه جزيرة القرم على البحر الأسود للاجتماع مع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، ورئيس الاتحاد السوفياتي السابق جوزف ستالين، وعرض عليهم القوتلي عقد اجتماعهم في دمشق، لكن تشرشل لم يرد على الدعوة.
دبابات بريطانية داخل مدينة دمشق في عام 1945 (Getty)
ثم دعي تشرشل في المرة الثانية بعد خروجه من الحكم لحضور احتفالات يوم جلاء القوات الفرنسية عن سورية في 17 نيسان 1946، واعتذر مستنكرًا، لأنه كان يرى أنه لا داعي للاحتفال، وكان يرى بأن يحتفل السوريون بعيد الاستقلال الذي أعطي لهم بفضل دعم حكومته عام 1941. أما في المرة الثالثة، فقد دعي إلى مقر السفارة السورية في لندن في الذكرى الأولى للجلاء عام 1947، وردّ تشرشل في ذلك الوقت برفضه أن يتوافق العيد الوطني لسورية مع جلاء القوات الأجنبية”، وأنه لا يريد المشاركة في مثل هكذا احتفال.
يقرّ المؤلف أن تشرشل كان متكبرًا، ومتعجرفًا، وعنصريًا، لكنه يستدرك بالقول إنه في الوقت نفسه “زعيم تاريخي لبلاده”، وقادها في أحلك الظروف، وقام بتغيير خارطة العالم، بما فيها خارطة الشرق الأوسط، ولا يعنيه أن تشرشل عُيّن في العام 1921 في وزارة المستعمرات بغية الاستفادة من أفكاره الاستعمارية، حيث قام بتأسيس قسم الشرق الأوسط من عميل الاستخبارات البريطانية الذي بنى علاقات قوية مع الشريف حسين وابنه الملك فيصل منذ بداية الحرب العالمية الأولى، واحتفظ تشرشل بعلاقة قوية معه.
غابت سورية عن اهتمام تشرشل قبل العام 1941، حيث لم تظهر في أي من خطاباته، ولم يعطها أي اهتمام يذكر، بالنظر أن الاتفاقات السرية كانت تنص على أنها من حصة الفرنسيين في المشرق العربي. أما أول قرارات تشرشل المتعلقة بالشأن السوري فقد اتخذه ردًا على الاحتلال الفرنسي لسورية، الذي كانت تشرف عليه حكومة “فيشي” الفرنسية الموالية لألمانيا النازية، ولذلك عبر عن نيته في غزو سورية بهدف تحريرها من النفوذ الألماني، و”منعًا لتكرار ما حدث معه في إيران والعراق”. أما علاقة تشرشل بسورية فيستمدها المؤلف من مراسلات تشرشل الحكومية، حيث يستند في تبيانها إلى ما جاء على لسان أعوانه ومستشاريه، ومعهم السفير إدوارد سبيرز، رجل بريطانيا الأول في سورية في ذلك الوقت.
“غابت سورية عن اهتمام تشرشل قبل العام 1941، حيث لم تظهر في أي من خطاباته، ولم يعطها أي اهتمام يذكر، بالنظر أن الاتفاقات السرية كانت تنص على أنها من حصة الفرنسيين في المشرق العربي”
إضافة إلى ما ورد في المحاضر الأساسية لاجتماعه الوحيد مع الرئيس القوتلي سنة 1945، وإلى “ما قاله القوتلي في مذكراته الصوتية التي لم تنشر حتى اليوم”، حيث يورد أن القوتلي “كلما فاتح تشرشل بموضوع استقلال سورية ومستقبلها، طلب الأخير إليه التأجيل، أو التروي، بحجة عدم انتهاء المعارك في أوروبا، انزعج القوتلي من هذا التسويف”.
تنوع التدخل البريطاني في الشأن السوري خلال الفترة الأولى من ترأس تشرشل الحكومة البريطانية على مختلف المستويات السياسية والعسكرية والاستخباراتية، حيث اتفق من شارل ديغول في الأول من شهر يوليو/ تموز 1940، يقضي بقيام ديغول “بتشكيل قوة فرنسية من المتطوعين، بحيث تضم وحدات بحرية وبرية وجوية وعناصر تقنية وعلمية، بهدف محاربة الأعداء المشتركين”، أي محاربة قوات حكومة فيشي والقوات الألمانية. وفي الثامن من شهر يونيو/ حزيران 1941 قامت قوات مشتركة بريطانية فرنسية باختراق الحدود السورية من جهة الأردن، من أجل قتال قوات فيشي الفرنسية، التي كانت تحتل الأراضي السورية، حيث حصل الألمان في ذلك الوقت على تسهيلات تبعًا لاتفاقية الهدنة التي وقعوها مع حكومة فيشي تقضي باستخدام الأراضي السورية من طرف قواتهم. وفي إثر دخول القوات البريطانية وقوات فرنسا الحرة إلى سورية أعلن ديغول استقلال سورية، ثم جرى تنظيم انتخابات نيابية انتهت بفوز الكتلة الوطنية، وفوز شكري القوتلي برئاسة سورية. وكان مقابل ذلك هو أن يعلن القوتلي دخول سورية الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا النازية، وهو إعلان له قيمة رمزية، لأن دخول سورية الحرب لن يقدم ولن يؤخر، خاصة أنها لم تكن تملك جيشًا يحارب، وذلك بعد أن قامت فرنسا بحل الجيش السوري عقب معركة ميسلون 1920.
يركز المؤلف على الدور الكبير لونستون تشرشل في تحرير سورية من الفرنسيين، لكنه يرجع حالات الارتكاس والتدهور التي آلت إليها الأوضاع في منطقة المشرق العربي إلى تشرشل، وكأنما يعاتبه على ذلك من خلال تحميله مسؤولية شخصية عما يسميه كثرة الثقوب في جسد الأمة، الذي يشبهه بالثوب البالي غير القابل للترقيع من كثرة الرقع فيه.
يبقى أن من المهم امتلاك رؤية علمية نقدية عند كتابة وتحليل الأحداث التاريخية التي مرّت بها سورية خلال تاريخها الحديث، خاصة وأن كتابة تاريخها قد خضع إلى مؤثرات كثيرة من طرف نظام الأسد، الذي قام بتوجيهها وتشكيلها، وقام باستغلالها سياسيًا. فضلًا عن أن كتابة التاريخ بشكل عام تحولت إلى ساحة صراع بين الأنظمة السياسية، خاصة تلك المحكومة بنزعات أيديولوجية عصبوية وإقصائية، حيث عادة ما تخوض فيه من أجل تحقيق غايات سياسية، وتقوم بتزوير تاريخ الدول، وتاريخ الناس في مجتمعاتهم.