تثير أعمال الصحافي الاستقصائي بوب وودوارد جدلًا واسعًا بمجرد صدورها، بدءًا من كتابه الأول “كل رجال الرئيس” الذي فجر فضيحة ووترغيت الشهيرة وما ترتب عليها من استقالة ريتشارد نيكسون عام 1974. فهل بوسع كتاب في وقتنا الراهن أن يسقط رئيسًا، أو حتى يترك أثرًا في المشهد السياسي مهما طرح من حقائق مخيفة؟
في كتابه “الحرب” الصادر حديثًا عن دار سيمون وشوستر، يكشف بوب عما يجري في كواليس البيت الأبيض لإدارة ثلاث من الحروب المشتعلة على الساحة؛ حرب أوكرانيا والشرق الأوسط والصراع السياسي داخل أميركا حتى أغسطس/ آب 2024، أي قبل فوز دونالد ترامب مباشرة بفترة رئاسة ثانية. وعلى امتداد 448 صفحة، مقسّمة إلى 77 فصلًا قصيرًا، تستند في مجملها إلى مقابلات وتصريحات لمسؤولين من داخل غرفة العمليات، يتبيّن للقارئ مدى زيف ما وصله من أخبار عبر وسائل الإعلام والقنوات الرسمية سواء في الشرق أم الغرب.
ثلاثية ترامب وثنائية هاريس
يركز بوب على محاولات إدارة بايدن المستميتة لمنع نشوب حرب عالمية ثالثة بأي ثمن، وفق ما أدلت به مصادره التي لم تجد داعيًا لذكر اسمها، فما يهم حقًا توعية الشعوب بما غاب عن مسرح الأحداث. في هذا الصدد يقول سيمون هندرسون: “إذا كانت الصحف هي المسودة الأولى للتاريخ، فإن كتب بوب وودوارد يمكن أن تدّعي أنها المسودة الثانية. إن الاقتباسات من اللاعبين الرئيسيين هي ما لا يمكن لمراسلي الصحف الذين يتابعون قصة عاجلة إلا أن يحلموا به. ويعتبر كتاب وودوارد الجديد مسودة ثانية جديرة بالاهتمام”.
في الفصل الأول، يسلّط الضوء على كواليس حادثة اقتحام أنصار ترامب مبنى الكونغرس فور خسارته غير المتوقعة في الانتخابات الرئاسية، وكيف وصلت به الحماقة إلى تهديد الديمقراطية على أرض أميركا بتحريض مؤيّديه على إثارة الشغب صارخًا فيهم: “لقد سرقت الانتخابات منكم والبلد سيضيع، اذهبوا الآن وحاصروهم…”.
يشرح بوب أنه لولا اتصال زعيم الجمهوريين بترامب وإقناعه بإصدار أمر لأعوانه الذين اقتحموا المكاتب وعطلوا الجلسة المنعقدة، فضلًا عن تسببهم في مقتل خمسة وإلحاق خسائر تقدّر بمليوني دولار، لما توقف الأمر. وبعد تردّد لم يدم طويلًا، اضطر ترامب صاغرًا إلى نشر تغريدة تأمرهم بالرجوع إلى بيوتهم، ثم غادر البيت الأبيض بدون أن يسلّم السلطة للرئيس الجديد أو حتى يترك له رسالة تهنئة.
“يؤكد بوب وودوارد في كتابه أن ترامب هو “الرجل الخطأ لرئاسة أميركا” وأنه “غير لائق لقيادة البلاد””
سبق أن نشر بوب ثلاثة كتب عن ترامب: “الخوف” 2018، “الغضب” 2020، “الخطر” 2021. ويتضمن كتابه الجديد مقابلات مع ترامب حول كيفية تعامله مع جائحة كورونا، حيث اعترف بدوره الرئيسي في تقليل خطرها لأسباب سياسية، وهو ما أثار جدلًا واسعًا في الأوساط الإعلامية. لقد التقى بوب بترامب عندما كان يعمل بالعقارات ويحلم ببناء فندق كبير. آنذاك دُعي بوب إلى مكتبه في نيويورك، وعلى الرغم من افتتانه بشخصيته، وقدرته على التلون في الحديث مع كل فئة على نحو مبهر، فإنه يؤكد في كتابه أن ترامب هو “الرجل الخطأ لرئاسة أميركا” وأنه “غير لائق لقيادة البلاد”.
على الجانب الآخر، يصف كامالا هاريس قائلًا: “كان نهج هاريس دبلوماسيًا في السر وحازمًا في العلن”. فمع اعتراضها في وسائل الإعلام على ما يحدث للمدنيين في غزة، كانت تظهر ودًا وتواضعًا عندما تجلس مع المسؤولين الإسرائيليين ومنهم بنيامين نتنياهو ولا تبدي أي اعتراض على ما يحدث.
تثير أعمال الصحافي الاستقصائي بوب وودوارد جدلًا واسعًا بمجرد صدورها (Getty)
نفي روسيا وشكوك أوكرانيا
يركّز الكتاب على الفترة التي قضاها بايدن في حكم أميركا وطريقته في إدارة ما استجدّ من صراعات تهدّد مصالحها، منها غزو روسيا لأوكرانيا والتي كانت الهدف الأساسي لبوب، لكن اندلاع الحرب في غزة والضفة الغربية والصراعات السياسية في أميركا أغرته بتوسيع دائرة التحقيقات لتشمل أيضًا التنافس بين ترامب وكاميلا هاريس على السلطة.
عندما وصلت معلومات استخباراتية عن غزو محتمل لأوكرانيا في منتصف عام 2021 إلى بايدن، أجرى اجتماعات مكثفة لتحديد حجم المشكلة ومحاولة إيجاد حلول لها. أعقب ذلك تحذير زيلينسكي مما سيطرأ على المشهد، غير أن رئيس أوكرانيا تشكك في تلك الأخبار. ومن جانبه نفى بوتين هذه المعلومات، مؤكدًا أنه لا يفكر مطلقًا في غزو أوكرانيا. عندما اتصل به بايدن وهدّده بفرض عقوبات قد تدمّر اقتصاد روسيا وعزلها عن العالم في مكالمة “ساخنة” استمرت لمدة ساعة تقريبًا، بايدن كان واثقًا من تلاعب نظيره الروسي.
“إلى جانب نتنياهو وترامب وبايدن، شمل كتاب الفضائح عددًا من الحكام العرب ودورهم في حرب غزة”
يعزو بايدن تعملق بوتين إلى ضعف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما حيث تركه يستولي على شبه جزيرة القرم بمنتهى البساطة، كما ترك له سورية، مزعزعًا بذلك صورة أميركا القوية وتحكّمها في زمام الأمور. كتب يقول “لم يأخذ باراك بوتين على محمل الجدّ قط”. واستفحل الأمر مع مجيء ترامب المعروف بصداقته لبوتين وانحيازه لمواقفه، لدرجة لم تمنعه من الإشادة به عقب غزوه لأوكرانيا قائلًا: “إنه عبقري. رجل ذكي للغاية. أنا أعرفه جيدًا”.
من ضمن المعلومات الواردة في الكتاب، انزعاج إدارة بايدن من تهديدات روسيا باستخدام السلاح النووي، سيّما بعد أن وصلتهم تقديرات بنسبه 50% ترجّح أن بوتين سيقبل على استخدامه. هنا حاول بايدن بكل الوسائل الممكنة الضغط على بوتين وحشد الغرب للوقوف أمامه، كما طالب الصين بالضغط عليه، وإلا لن تتورّع أميركا عن إلحاق الضرر بروسيا واقتصادها ومستقبلها.
يورد بوب أيضًا تقييمًا لحالة بوتين على لسان أفريل هاينز، مديرة الاستخبارات الوطنية لمجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض، وما أصابه من ضعف جرّاء حرب أوكرانيا بعد أن قُتل 200 ألف روسي واستهلكت الحرب من اقتصاد البلاد أكثر من 200 مليار دولار، ولكن هاينز تنبّهنا إلى مدى استفحال خطر شخصية كتلك على العالم حين تشعر بالضعف.
نصيب الشرق من قاموس الشتائم
من ضمن التفاصيل المهمة التي يوردها بوب، طبيعة العلاقة الشائكة بين بايدن ونتنياهو، فمع كل الدعم الذي يقدّمه الأول للأخير في حربه الهمجية على قطاع غزة، إلا أن بايدن لا يشعر حيال حليفه بأي ارتياح، حتى أنه لا يثق به لكثرة أكاذيبه هو ورجاله، وإصراره على قتل كل أعضاء حماس حتى آخر رجل. وهنا يسأله بايدن عن استراتيجيته، ولما أجاب “سندخل رفح”، ردّ عليه قائلًا “بيبي، ليست لديكم أي استراتيجية”.
يحكي بوب عن استشاطة بايدن غضبًا عندما قامت إسرائيل بقصف قنصلية إيران في دمشق وقتل زعيم الحرس الثوري قائلًا له: “أنا معك في الدفاع عن نفسك وعن بلدك ضد الجماعات الإسلامية ولكنا لن ندعمك في مهاجمه بلد كامل مثل إيران… أنت تسهم في ترسيخ صورة إسرائيل كدولة مارقة”. تضمّن الحوار تهديدًا بعدم إمداده بالأسلحة لأنه أصبح عائقًا أمام تحقيق السلام في الشرق الأوسط. مع كل هذه الإحباطات وانعدام الثقة في نتنياهو، لم تتوقف أميركا عن إمداد إسرائيل بالأسلحة التي قتلت حتى الآن أكثر من 45 ألف من سكان غزة.
تتناثر الألفاظ البذيئة على طول النص، غير أن بايدن انفرد بجدارة بأكثر الألفاظ بذاءة، منها مثلًا قوله عقب تفاوضه مع طرفي النزاع: “لقد أمضيت خمس ساعات ذهابًا وإيابًا على الهاتف مع اثنين من أكبر الحمقى في العالم: نتنياهو ومحمود عباس”، وانطلاقه في سيمفونية من الشتائم والسباب عقب كل مكالمة واصفًا نتنياهو بـ “ابن العاهرة”، و”القذر”…
حقائق مؤكدة أم أداة انتخابية؟
إلى جانب نتنياهو وترامب وبايدن، شمل كتاب الفضائح عددًا من الحكام العرب ودورهم في حرب غزة، والتي اتضح منها مدى النفور العام من الجماعات المتشدّدة جرّاء ما ألحقوه بالبلاد من خسائر. كما يضم أيضًا عددًا من الشخصيات مثل مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ومنسق مجلس الأمن القومي لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكغورك.
في الفصل السادس، يتحدث بوب عن جولة أنتوني بلينكن؛ وزير الخارجية الأميركي، بعد خمسة أيام فقط من حرب غزة. ويورد جزءًا إشكاليًا من كلام بلينكن في تل أبيب: “أنا هنا بينكم بصفتي يهودي أولًا وأميركي ثانيًا”، ومن أجل نصرة بني دينه، سارع نتنياهو بعرض مطالبه: “نريد منكم ثلاثه أشياء وهي السلاح، السلاح، والسلاح”، فإذا ببلينكن يؤكد له ثلاث مرات: “نحن معكم ولن نخذلكم”، وكأنهما يعزفان على وتيرة واحدة! ولكن، ما وضع أهالي غزة من تلك الصفقة؟ يرد نتنياهو بثقة: “سندفع بهم جميعًا إلى مصر”، لكن بلينكن كان على يقين من أن مصر لن تقبل.
على الرغم مما حققه بوب من توازن في إيراد الحقائق، فقد قوبل كتابه بكثير من الرفض والانتقاد، حتى أن ترامب قام برفع دعوى على الناشر مدّعيًا زيف كل المعلومات الواردة، مع الأخذ في عين الاعتبار تزامن صدوره قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أميركا بفترة وجيزة، بغرض دعم هاريس في حملتها الانتخابية، إلا أن بوب كان لديه هو وناشره ما يثبت صدق كل كلمة وردت في كتابه “الحرب”، تلك الكوميديا السوداء عن أكثر الفترات تشوشًا في الألفية الثالثة الحالية.
شارك هذا المقال