في كل من ذكرى وفاة عبدالناصر  وقيام ثورة 23 يوليو (تموز) 1952، تتحول  مواقع التواصل الاجتمتعي  إلى ساحة جدال عارم بين مؤلهين لعبدالناصر ومشيطنين له، وأنصار للثورة وأعداء لها، كأنما لم تنقض أكثر من 50 سنة على الحدث الأول وأكثر من 70 على الثاني.

لا يبدو مسموحاً في تلك المعارك الكلامية بمواقف وسطى، يتفق فيها المرء مع ملفات من دون أخرى، ويناصر مواقف ويعترض على مواقف، ويثني على منجزات وينتقد خطايا وهفوات، هذا وأغلبنا اليوم لم يعاصروا عبدالناصر، ناهيكم بالثورة، ومن عاصر أياً منهما فينا فقد عاصره صبياً أو شاباً على الأكثر.

لم نزل مطالبين (في مصر في الأقل) بتحديد موقفنا منهما، لأنه في الحقيقة تحديد لموقفنا من قضايا ملحة إلحاح التنمية والقمع السياسي وإسرائيل وفلسطين والعلاقة بالغرب والعلاقة بأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية (أو ما يعرف بلغة أيامنا بجنوب العالم) وكثير للغاية من أمثال هذه القضايا التي لم تنته بعد إلى ذمة الماضي، ولم تزل فاعلة في الحاضر ومخيمة على المستقبل.

لا يبدو أن عبدالناصر حاضر فينا فقط، فصوره التي ظهرت في ميدان التحرير ر خلال يناير (كانون الثاني) 2011، لم تزل تظهر على أغلفة كتب تصدر لا عن مطابعنا فقط، وإنما أيضاً عن مطابع الغرب، أحدث هذه الكتب صدر أخيراً بعنوان “كلنا جنودك: كيف أعاد جمال عبدالناصر صنع العالم العربي” للصحافي الأميركي المقيم في لبنان أليكس راول في 416 صفحة، وفيه يحاول الكاتب النظر إلى تركة عبدالناصر في ضوء واقع العالم العربي في ما بعد ربيع 2011.

يكتب راول في مقدمة كتابه، أن عبدالناصر الذي ربما يعد أبرز العرب في التاريخ الحديث لم يكن معصوماً من النقد قط “فقد وصفه ونستن تشيرتشل بـ”الخنزير الخبيث” وقارنه أنطوني إيدن وهارولد مكميلان بكل من هتلر وموسوليني، ودرج على مثل ذلك نظيرهما الفرنسي جي موليه، وبات “هتلر النيل” لقباً له في “ديلي ميل” اللندنية طوال الخمسينيات من القرن الماضي، ولم يتكن هذه حال الغرب وحده فـ”على مقربة من الوطن، اتهم المتشددون من القوميين العرب عبدالناصر بأنه عميل سري للغرب، ورأى الإسلاميون أن حكمه لا ديني، ورفضه الاشتراكيون باعتباره رأسمالياً برجوازياً، وأدانه الرأسماليون باعتباره شيوعياً قحاً، ونعته الشيوعيون بـ”الفاشي”.

وناقل الكفر ليس بكافر، أجدني مرغماً على التذكير بذلك التحوط الفقهي القديم، مدركاً أن لعبدالناصر اليوم كما كان له في حياته أنصاراً لا يكادون يتورعون في نصرته عن شيء.

يوشك راول على القول إن الجميع عادوا الرجل، أو انتقدوه، لو لا أن هذا “الجميع” يغفل عنصراً اعتدنا إغفاله في منطقتنا عموماً، الشعب، ملايين البشر العاديين غير المؤدلجين، الذين لا يكونون آراءهم مجاراة لبرامج حزبية أو اتباعاً لفتاوى مذهبية، وإنما يحكمون مشاعرهم، فإن تفذلكوا فمصالحهم، وكثير من هؤلاء في تقديري لا يزالون يشعرون بحنين إلى عبدالناصر وأيام عبدالناصر، وربما بشيء من اليتم من بعده.

يبدأ بن هوبارد (نيويورك تايمزـ 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023) استعراضه لكتاب “كلنا جنودك” بداية بعيدة بعض الشيء، “في الأول من سبتمبر (أيلول) سنة 1969، شنت جماعة من أفراد الجيش الليبي انقلاباً عشوائياً لكن ناجحاً في نهاية المطاف أطاح بعاهل البلد الملك إدريس الأول وتولوا بأنفسهم مسؤولية البلد النفطي الثري الواقع على ساحل البحر المتوسط. وفي حديث عبر موجات الإذاعة، أعلن قائدهم، وهو ضابط ذو رتبة صغيرة في أواخر العشرينيات من عمره يدعى معمر القذافي، بزوغ فجر عصر جديد”.

“وسرعان ما أدرك الانقلابيون، وهم جماعة من الضباط لم يسبق لأي منهم أن تولى الحكم ولو في واحة صحراوية، أنهم بلا أي دراية عن حكم بلد، فبعثوا برقية إلى بطلهم وقدوتهم جمال عبدالناصر رئيس مصر وأحد أبرز العرب في عصره، طالبين منه العون، فبعث سلاحاً، وخبراء عسكريين، وأسدى لهم النصح في شأن طريقة الحديث مع الغرب، وشجع الضباط على أن يطمئنوا الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا إلى أن الانقلاب لا يمثل تهديداً لشعوبهم أو لمصالحهم. وظهر علناً مع العقيد القذافي ليعزز الموقف الدولي للديكتاتور الشاب وبعث مساعداً ليشير عليه في كل شيء يحتاج إلى معرفته، من قبيل أهمية تعيين طاه موثوق فيه لاجتناب الاغتيال بالسم (وتردد أن عبدالناصر قال لمساعده ذلك “إذا لم تنجح في تأمين هذه الثورة فسوف أقتلك بيدي هاتين”).

“مضى العقيد القذافي فحكم ليبيا على مدى 42 سنة، متوحشاً في حكم شعبه، عاجزاً عن تنمية أمته، راعياً أعمال الإرهاب، حتى بات في شيخوخته سفاحاً هزلياً يحضر المنتديات الدولية في أثواب فضفاضة وصخب شخص لا يحكمه عقله، وما حكمه الطويل إلا غيض من فيض إرث عبدالناصر الكارثي، بحسب ما يقول كتاب “كلنا جنودك” الذي يصطحب القارئ في جولة تاريخية في الشرق الأوسط ليكشف مدى إسهام عبدالناصر في “لعنة القمع السياسي المختلط بالبؤس الاقتصادي” في المنطقة.

يقول بن هوبارد، وهو رئيس مكتب “نيويورك تايمز” في إسطنبول الذي قضى أعواماً في العالم العربي متنقلاً بين سوريا والعراق ولبنان والسعودية ومصر واليمن، إن أغلب أحداث الكتاب “تدور في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، حين كانت دول عربية كثيرة تؤسس ما سيصبح أنظمة الحكم السياسية المستقلة المعاصرة، كان العصر عصر اضطراب كبير، شهد إطاحة ملوك، وجرت فيه انقلابات متكررة، وكان عبدالناصر هو الشخصية الطاغية في المنطقة”.

 

ليس الكتاب سيرة شاملة لعبدالناصر، ولا ينفق من الوقت الكثير في حياته قبل أن يتولى السلطة أو في ما يتعلق بأنشطته الدولية، من قبيل دوره في الوضع الجيوسياسي في الحرب الباردة أو تأميمه شركة قناة السويس في عام 1956، لكنه يركز بدلاً من ذلك على الجانب الأقسى في حكمه وعلى تدخلاته الإقليمية، بدءاً بالنظام الأوتقراطي الذي أقامه في مصر إلى تدخلاته في سياسات البلاد المجاورة من قبيل ليبيا لتقوية حكام طغاة أصبحوا، على حد تعبير راول، “فريق الطغاة المارقين الذين أنزلوا العذاب على مجتمعاتهم””.

يتتبع راول عبدالناصر في أرجاء المنطقة، مفصلاً الأساليب التي نثر بها بذور مشكلات المستقبل، ففي “العراق دعم انقلابات ومحاولات انقلابية ومنح الاعتراف لانقلابيين مع استضافته لصدام حسين في القاهرة طوال ثلاث سنوات قبل أن يرجع صدام إلى وطنه ويستولي في النهاية على البلد. سعى عبدالناصر إلى فرض سيطرة فعلية على سوريا من خلال توحيدها مع مصر في الجمهورية العربية المتحدة قصيرة العمر، والإسهام في الفوضى التي خرج من رحمها الرئيس حافظ الأسد فاستولى على السلطة سنة 1970. ودفع عبدالناصر إلى اتفاقية مع لبنان سنة 1969 منحت المقاتلين الفلسطينيين حرية الحركة في البلد لمحاربة إسرائيل، وهو واقع أسهم في حرب لبنان الأهلية التي دامت 15 عاماً، مثلما تسبب في صعوبة التوصل إلى حل لتلك الحرب”.

وفي اليمن خلال حقبة الستينيات، وهي “أقتم بقعة في سجله لا يكاد ينافسها منافس” بحسب ما يكتب راول، ساند عبدالناصر القوى الثورية التي أطاحت حاكم البلد بالوراثة، حلقت قواته فوق البلد بأسلحة كيماوية، لم يسبق لجيش عربي أن استعملها من قبل، وألقتها بلا رحمة على المدنيين.

وتبلغ كتابة راول أفضل حالاتها عندما يحكي قصص أشخاص أقرب إلى المغمورين، متيحاً في ثنايا ذلك ظهوراً براقاً للأنسجة السياسية والثقافية في تلك البلاد. فهو يعيد بناء حياة وموت (كامل مروة) الصحافي اللبناني المرموق والمنتقد لعبدالناصر، وقد لقي مروة مصرعه بالرصاص في مكتبه إذ أطلقه عليه قاتل تعتقد أسرته أن عبدالناصر هو الذي بعثه. ويحكي أيضاً قصة صعود هزاع المجالي وهو محام في بلدة أردنية صغيرة صعد حتى أصبح مستشاراً للملك في عام 1947، ثم رئيساً للوزراء في العقد التالي. وكانت لناصر أيضاً يد في مؤامرة لتفجيره في مكتبه سنة 1960″.

لكن في فصول أخرى، يؤدي نزوع راول إلى الغوص بعمق في أنظمة حاكمة طال العهد على غيابها، وإعاقة قصته الأساسية بأسماء مسؤولين هامشيين حتى في زمانهم، إلى التشتيت عن الصورة الكبيرة. وفي بعض الأحيان تذهب جهوده إلى أبعد مما ينبغي في ربط الأحداث بتأثير عبدالناصر الضار. فلأسباب تبقى غير واضحة لي حتى بعد قراءتين للكتاب، يستهل راول الكتاب باغتيال الناشط المثقف اللبناني لقمان سليم في عام 2021، وهي جريمة لم تزل معلقة وإن تكن منسوبة على نطاق واسع إلى “حزب الله”، فلا يمكن ربط هذا الاغتيال بعبدالناصر إلا بأوهى الخيوط”.

وأوهى الخيوط التي يشير إليها بن هوبارد لا تعدو أن “والدة لقمان كانت أول من لاحظ التوازيات بين [مقتل ابنها] واغتيال الصحافي اللبناني كامل مروة سنة 1966، فقد كان [لقمان سليم] شأن مروة منتقداً بارزاً لأنظمة حكم، وكلاهما واجه حملات تشويه خبيثة في الصحافة الصفراء التي هاجمتهما ووصفتهما بـالخيانة والعمالة لإسرائيل والغرب، وكلاهما لقي مصرعه برصاصات من مسافة قريبة، وهو ما يحمل كل بصمات العمليات التي ترعاها الدولة”، فكأن راول يقول إن لقمان سليم اغتيل لأن عبدالناصر استن الاغتيال السياسي في المنطقة ورسخه ضمن الممارسات السياسية، وهذا في رأيي قول لا يستحق عناء التفنيد.

يكتب تونكو فاراداراجان (وول ستريت جورنال – 15 نوفمبر 2023) أن “تلاميذ المدارس المصريين في ستينيات القرن العشرين كانوا يتعلمون نشيداً في مديح الرجل الذي أعلن نفسه رئيساً عليهم في عام 1954، وهو في الـ36 من العمر، أي في سن صغيرة بالنسبة إلى حاكم لا ينتمي إلى عائلة ملكية في بلد عربي، يرد في ذلك النشيد بالعامية المصرية “سمعت بابا بيقول لماما الفضل كله لبابا جمال””.

ويشير فاراداراجان، زميل معهد أميركان إنتربرايز والمعهد الليبرالي الكلاسيكي بكلية الحقوق بجامعة نيويورك، إلى أن كتاب “كلنا جنودك” يأخذ على عاتقه تفنيد هذا الفضل المزعوم لجمال عبدالناصر، فهو كتاب “ثري بالتفاصيل، إن لم يكن في بعض الأحيان موسوعياً أكثر قليلاً مما ينبغي، ويصف الكتاب كيف امتلأت سنوات عبدالناصر الـ 16 في الحكم بالوعود الزائفة والإشراقات الكاذبة، لقد فشل فرعون الشعب في القضاء على الفقر في بلده، وحينما كان تلاميذ المدارس يتغنون باسمه، كان الطعام يوزع بالحصص في مصر، مع حظر بيع اللحم ثلاثة أيام في الأسبوع، فما أبعد ذلك عما تعهد به عبدالناصر في مطلع حكمه من أن يجعل اللحم أساسياً في النظام الغذائي المصري”.

يكتب بن هوبارد أن “من دوافع راول إلى تأليف هذا الكتاب أن يعيد النظر في تركة عبدالناصر في ضوء الانتفاضات الشعبية المناهضة للاستبداد المعروفة بالربيع العربي، وبتنقله عبر التاريخ الأحدث لبلاد المنطقة يستكشف راول في أجزاء أخرى من الكتاب ما يجعله يذهب إلى أن لعبدالناصر مسؤولية غير قليلة عما في هذه البلاد اليوم من خلل” ويعلق هوبارد بأن “حجم العالم العربي وتعقيده يجعلان من الحماقة السعي إلى تعيين سبب واحد لعلل المنطقة، وبالتركيز المباشر على عبدالناصر، يخطو راول بخطورة إلى ذلك الشرك”.

لكن حتى لو اتفقنا مع راول على أن ثمة داعياً ملحاً لكتابة تاريخ فترة عبدالناصر موسعاً ومنقحاً في غداة ثورات الربيع العربي، مقيمين اتفاقنا هذا على بديهية أن المراجعة التاريخية عمل ينبغي أن يكون طبيعياً ودائماً وغنياً عن أي مسوغات من خارجه أصلاً، يبقى من الصعب أن نتفق معه على أن ما سعت ثورات الربيع العربي إلى إطاحته هو “على وجه التحديد: البنى التي أفرزها عصر عبدالناصر”.

فقد جرت مياه كثيرة في أنهار العرب منذ موت عبدالناصر الذي قد يكون هو رائد حكم العسكر في منطقتنا، وقد تكون قبضته على السلطة هي الخيال الذي داعب كل من عاصره أو أعقبه من طغاة المنطقة، لكن ثمة فارقاً واضحاً بين الطاغية الملهم وبين من ساروا على نهجه، فارقاً يتمثل في أنهم في الحقيقة لا ساروا على نهجه، ولا انحازوا انحيازاته ولا عملوا من أجل الطبقة التي كان يعمل من أجلها، وإنما حسبهم أنهم ورثوا عنه الجانب الأسوأ في تركته: أي ممارسات الاستبداد والقمع.

ولعل هذا الفارق هو الذي جعل نهايته، إن كان حقاً انتهى، تختلف عن نهايتهم، فقد حمل شعبه نعشه في موته، مثلما حملوه استعارياً وفعلياً في حياته، بكوه بكاء صادقاً، وعلقوا صوره في بيوتهم مع صور آبائهم، وحملوها في ميادين ثوراتهم مع صور شهدائهم، واستحضروها كلما ضاقت أمامهم السبل أو صغر في أعينهم الرجال. أما “خلفاؤه” المزعومون فثارت عليهم شعوبهم وأطاحتهم وقتلت من طالته منهم وشمتت في موت من أنقذه الموت من أيديهم، أو احتملتهم منتظرة رحمة السماء في أي صورة تأتي.

عنوان الكتاب: We Are Your Soldiers: How Gamal Abdel Nasser Remade the Arab World 

تأليف: Alex Rowell 

الناشر: W. W. Norton & Company