يوما بعد يوم، يثبُت، من دون أدنى شك، أن تركيا التي ساهمت باطلاق هجوم “هيئة تحريرالشام” وحلفائها على مدينة حلب، في 27 تشرين الثاني نوفمبر الماضي، هي أكثر دولة فوجئت بانهيار الجيش السوري، وهروب ضباطه وجنوده، ثم بتساقط المدن السورية وصولا الى العاصمة دمشق، ثم بسقوط النظام الاسدي، وفرار رئيسه تحت جنح الظلام الى روسيا..وهي أكثر دولة تبحث عن معالم “اليوم التالي” لسوريا المفتوحة على حدودها الجنوبية، وعن النظام المقبل، وكيفية تشكيله وإكسابه الشرعية الداخلية، والدولية، وبناء مؤسسات الحكم السياسية والعسكرية والاقتصادية.. باختصار:عن إعادة بناء الجمهورية السورية من نقطة الصفر التي تقف عندها اليوم.
ولكي لا يساء الظن كثيراً بتركيا، لا بد من التسليم بأن خطاب “هيئة تحرير الشام”، وزعيمها أحمد الشرع ، يختلف تمام الاختلاف عن خطابها عندما كانت تحكم إدلب وريفها، وعندما كانت تدير المعابر الحدودية مع تركيا. وهو أمر يدركه السوريون جميعا، وليس فقط الذين عاشوا نحو ثماني سنوات تحت حكم الهيئة، واشتبكوا معها وتظاهروا ضدها، وهتفوا باسقاط زعيمها.
الخطاب الآن جديد كلياً، وهو يوحي بأنه كتب في أنقرة، لا في إدلب، وتمت صياغته على عجل، لكي يواكب التوسع التام لسيطرة الهيئة، التي تحولت في خلال 11 يوماً من مليشيا تعرض حل نفسها، والاندماج بالجيش الوطني السوري المرتقب تشكيله، الى مركز للسلطة المؤقتة، التي باتت تغطي كامل مساحة الجمهورية تقريبا، يدين لها الخصوم المحليون جميعا، ويسلم بتفويضها المؤقت العالم أجمع، بغض النظر عن ماضيها المنسوب الى تنظيم القاعدة، وعن حاضرها المنهمك بالحصول على فرصة شبيهة بالفرصة التي نالتها حركة طالبان لحكم أفغانستان.
وهو خطاب تمليه الحاجة الى حماية الامن الداخلي السوري، في ضوء الانتشار المسالم، والمثالي، للهيئة في مختلف انحاء سوريا، والى منح أنقرة الوقت الكافي لاقناع جميع السوريين أنها مرجعية لعملية سلام وتغيير واستقرار، وليست قيادة لحركة انقلابية قسرية..ولاقناع العالمين العربي والإسلامي أنها تمد للمرة الثانية خلال أقل من عشرين عاماً، يد الانفتاح والصداقة والشراكة والتجارة، مع جيرانها الجنوبيين، بعدما سبق ان مدتها بواسطة الرئيس المخلوع بشار الأسد نفسه..
اليد التركية الممدودة، قوبلت حتى الآن بالكثير من التحفظ العربي (والدولي) المفهوم والمبرر. فالاستجابة لتلك الدعوة الى احتضان الهيئة وزعيمها، تحتاج الى أكثر من تبديل الأسماء والصفات والأعلام، المرتفعة الان في سماء سوريا، التي وقعت فجأة تحت مسؤولية تركيا الحصرية. وهو عبء ثقيل جداً على الاتراك، أكثر مما كان في الماضي، عبئاً ثقيلاً على إيران ثم روسيا اللتين سبق أن غادرتا سوريا بلا رجعة، محملتين بالكثير الخسائر السياسية والديون المالية المطلوبة من دمشق.
في اجتماعات مدينة العقبة بالأمس، جرت ترجمة التحفظ العربي (المغطى بتحفظ أميركي ودولي مماثل) الى بيان، أو قرار بإعتماد الأمم المتحدة كمرجع وحيد لتحديد مستقبل سوريا، وتنظيم العملية السياسية بناء على قرار مجلس الامن الرقم 2254، وتوسيع فريق ومهام المبعوث الدولي غير بيدرسن، وصولا الى تشكيل “حكم ذي مصداقية”، جرى تحويله الى مجلس انتقالي للحكم، يتولى إدارة المرحلة الانتقالية، وكتابة الدستور الجديد وإجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية المنشودة..
وهي مهمة صعبة جداً، وتكاد تكون مستحيلة، لأن المرجعية التركية لم تقدم حتى الآن عرضاً انتقالياً مغرياً ، أو بتعبير أدق ليس لديها فريق انتقالي غير”هيئة تحرير الشام”، وزعيمها، كما ليس لدى أي بلد عربي (أو أجنبي)، فريق أو هيئة أو حتى كتلة، تمثل “المكونات” السورية، تستطيع ان تدخل المرحلة الانتقالية وتكسبها المصداقية والشرعية اللازمة. الفراغ الذي خلفه النظام الاسدي، لم يقتصر على محيطه وبيئته، بل يبدو اليوم، وكأنه سِمة سورية، تؤجل موعد ظهور النظام الجديد، وتفسح المجال لخطايا مثل إعلان أحمد الشرع ترشحه لرئاسة الجمهورية، إذا طلب منه السوريون أو المحيطون..الذين يرجح أنهم من غير الأتراك.
بيروت في 15/12/2024