كانت المفاجأة الكبرى في الأحداث التي شهدتها سوريا هي سرعة انهيار وحدات الجيش السوري أمام الهجوم المباغت للفصائل المعارضة، وانسحابه أولاً بأول من مواقعه من دون قتال، بحيث لم يكن أكثر معارضي الرئيس السوري بشار الأسد تفاؤلاً ولا أكثر مؤيديه تشاؤماً يتوقع هذا الانهيار السريع والمفاجئ لنظام حكمه واختفاء جيشه حتى تدخل المعارضة المسلحة دمشق من دون قتال، ما يدفع إلى التساؤل حول أسباب هذا الإنهيار.
لم تستغرق هذه التطورات أكثر من 10 أيام بعد أن تصور الكثيرون أن حكم بشار الأسد قد استعاد عافيته تماماً وقضى على الثورة التي تفجرت ضده في 2011. فمنذ 2017 توقفت عمليات المعارضة المسلحة تقريباً، ونجح الرئيس السوري في استعادة السيطرة على حوالي ثلثي مساحة البلاد، إذ بعد أن استعاد استقرار حكمه، بدأ الأسد يسافر إلى الخارج وزار موسكو وبكين والرياض وطهران وأبوظبي. وبدا أن الجميع قبلوا ولو على مضض، بأن حكم هذا الرجل القوي الوحشي سيبقى.
ولعل تصدع البيئة الحاضنة للنظام، والتي فقدت الإيمان به ولم تعد في موقع الدفاع عنه، أفقد النظام توازنه واستقراره، وهو ما يُترجم هشاشة قوات النظام وعدم قدرتها على الدفاع عن مواقعه، وانسحاباتها العشوائية بعد أن وجدت نفسها وحيدة في الميدان، أمام خصم يتمتع بمعنويات عالية وإيمان بالتحرر وتنظيم وبراعة في الأداء العسكري والمدني. ويمكن إرجاع انهيار الجيش السوري السريع إلى التطورات التي شهدتها سوريا مُنذ العام 2011، والتي تمثلت في استمرار العمليات العسكرية لسنوات طويلة، وتدهور الأوضاع الاقتصادية بسبب ظروف الحرب، والعقوبات الاقتصادية الأميركية المعروفة باسم “قانون قيصر” لعام 2019، وكانت النتيجة جيشاً مرهقاً انخفضت روحه المعنوية ورغبته في القتال، واقتصاداً منهكاً تدهورت فيه الأوضاع المعيشية لأغلبية السوريين، والذين يعيشون تحت خط الفقر المدقع.
وزاد من مشاعر الإحباط انتشار الفساد في أوساط الفئات العليا في الحزب والجيش. ففي تحليل نشرته مجلة “ناشيونال إنتريست” الأميركية تحت عنوان “لماذا تنهار الجيوش؟” قال ستيوارت رايد الباحث البارز في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي ومؤلف كتاب “مؤامرة لمومبا”: “إن هذا الاستسلام المفاجئ للجيش السوري جزء من تقليد راسخ لدى الجيوش القوية ظاهرياً والهشة داخلياً التي تنهار بسرعة في مواجهة تقدم المتمردين”.
وأضاف رايد: في حين من المستحيل التنبؤ بتوقيت انهيار أي جيش، يكشف تحليل نماذج انهيار الجيوش في العالم على مدى العقود الماضية عن ثلاثة أسباب رئيسية تكررت في كل حالة وأدت إلى الانهيار السريع للجيوش في مواجهة المتمردين:
-السبب الأول هو الإقصاء العرقي، بحيث تكدس الحكومات جيوشها بأبناء عرقها وخصوصاً في المناصب القيادية بهدف ضمان تماسك الجيش وولائه، في حين أنها تثير سخط المجموعات العرقية الأخرى في الدولة واستياءها وتحول الجيش إلى كيان طائفي وليس وطنياً فيصبح انهياره ممكناً إذا ما انهار حكم الطائفة. وفي سوريا شكلت الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد حوالي 70 في المئة من الجنود و80 في المئة من الضباط في الجيش السوري، في حين أن هذه الطائفة لا تشكل أكثر من 13 في المئة من سكان سوريا. وكان العلويون يسيطرون بالكامل تقريباً على الحرس الجمهوري وهي قوة النخبة التي كان يقودها ماهر الأسد. لذلك لم يكن لدى أفراد الجيش وضباطه من غير العلويين استعداد للموت من أجل نظام حكم لا يمثلهم.
-السبب الثاني هو الفساد الذي يعتبر أقوى عامل لتآكل للجيوش. وغالباً ما تعجز الحكومات الضعيفة عن تحمل تكلفة شراء ولاء قواتها، لذلك تتساهل مع فساد هذه القوات، وخصوصاً كبار الضباط الذين يتوسعون في التربح من كل شيء متاح، كما أن الترقي في صفوف هذه الجيوش يكون لمن يستطيع دفع الرشاوى أو من له اتصالات قوية وليس للأكفأ ولا الأكثر تأهيلاً. في الوقت نفسه يثير فساد الجيوش سخط السكان الذين يدعمون المتمردين وينضمون إليهم. كما أنه يجعل هذه الجيوش أقل كفاءة بسبب اختلاس الأموال وعدم توجيه الموارد نحو شراء الأسلحة والمعدات ودفع الأجور للجنود.
-أما السبب الثالث والأكثر أهمية وراء انهيار الجيوش فهو فقدان الدعم الخارجي. فالحكومات الضعيفة تحتاج عادة الى المساعدة من أجل استمرار سيطرتها على البلاد. وعندما ينسحب الدعم الخارجي تكون نهاية هذه الحكومة وجيشها. لذلك فإن جيوش الدول المستبدة تكون نماذج مصغرة لحكوماتها. ومثل الجيش السوري، كانت الدولة السورية قد تعرضت للتجريف عبر سنوات من الفساد والإقصاء العرقي وعاشت على الدعم الخارجي.
مستقبل “سوريا الجديدة” مليء بالاحتمالات المختلفة والمتباينة، فقد تتم إعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس جديدة تضمن المواطنة المُتعالية على التعدد الإثني والانقسامات الطائفية، وتوفر المشاركة الديموقراطية وحقوق الإنسان، أو تدخل فى نفق مظلم من عدم الاستقرار والتفرقة الطائفية. المؤشر والضامن الأساس لقيام “سوريا جديدة” العمل على إعادة بناء جيش وطني، وفقاً للأسس والمرتكزات التي تقوم عليها الجيوش في الدول المتقدمة، بعيداً عن المفاهيم “المتخلفة” لجيوش الأنظمة “الديكتاتورية” التي تستخدم جيوشها لقمع شعوبها وفرض سلطتها عليهم عن طريق القمع والإستبداد.
بالتأكيد هذه المسألة ستستغرق وقتاً وتتطلب جهوداً مضنية لإعادة بناء جيش وطني بعقيدة عسكرية عصرية تحاكي التطورات التي حدثت والتحديات التي تنتظر سوريا، خصوصاً وأن الجسم العسكري الجديد سيقوم بناءً على التوافق مع مختلف الأطياف والقوى السياسية التمثيلية في سوريا، وفقاً للإطار العام لقرار مجلس الأمن 2254، الذي ينص على تشكيل هيئة حكم انتقالية مؤلفة من مجلس عسكري ومدني، على أن تتبع ذلك مرحلة كتابة الدستور وإجراء الانتخابات.
16