ينشر اللبنانيون صورًا لما كانت عليه بيوتهم قبل القصف الإسرائيلي الذي دمّرها، وغالبًا ما ينشرون صورًا لها بعد تعرّضها إلى القصف. الصور تقول بلا مواربة إنّ البيوت أرواح، ويجدر بنا نعيها كما ننعي الناس. في هذه الحرب ثمة ضحايا جدد لم تنصّ على حمايتها قوانين الحروب. إنها البيوت. مع ذلك ها هي تموت أمام أعيننا، كما لو أنها حقًا تملك أرواحًا.
تدمير البيوت ليس أمرًا جديدًا على اللبنانيين في حروبهم مع إسرائيل وفي حروبهم الداخلية، وفي حروب الإهمال والاستخفاف التي ذرّتهم. انفجار المرفأ عام 2020 هدم بيوتًا كثيرة وترك غيرها الكثير أيضًا عاريًا ومُعرّضًا للرياح والمطر والعوامل الطبيعية بلا سند أو معين.
قد يسأل سائل: ما بال اللبنانيين يحزنون على بيوتهم وأهلهم يموتون تحت القصف؟ أليس الأولى أن نختزن أحزاننا كلها للموتى من البشر؟ وقد يكون هذا السؤال مشروعًا. ولكنّ البيوت اليوم هي غير البيوت في الحروب التي غبرت. البيوت باتت لأسباب عديدة تشبه شركاءنا في الحياة. وسائدنا وأسرّتنا ومقاعدنا، ووسائل راحتنا كلها كامنة فيها. ما الذي نفتقده عند غياب الشريك أكثر من ساعات الراحة والدعة التي قضيناها معه؟ للبيوت أرواح؟ طبعًا، لأنها اليوم ما يعرفنا ويميّزنا كبشر عن سائر الكائنات. لقد غالت التقنيات الحديثة والقوانين المتلاحقة والاكتشافات الطبية وعوامل الطبيعة الجائرة في عسفها، ونحن اليوم لا نستطيع أن نكون بشرًا، معرّضين للعسف والقسوة حتى، من دون بيوتنا. فيها نتخلّص من روائح العالم المكروهة، وفيها نتوقف عن السعي المضني ونمدّد أجسامنا متعبين ولا نريد من هذا العالم شيئًا أكثر من غفوة قصيرة، وفيها تختبئ كل أسرارنا، والبشر، اليوم أكثر من أي وقت مضى، باتوا يعرّفون بأسرارهم.
وفي هذه البيوت أيضًا نتعرّف على ما يجري حولنا، إنها نافذتنا على الكرة الأرضية، والمكان الذي يسمح لنا، خلال أوقات راحتنا، أن نسامر أصدقاءنا منه ونطمئن إلى أحبائنا. البيوت: لم نعد نستطيع أن نكون بشرًا من دونها، ولم يعد يمكننا أن نتساوى مع أقراننا في غيابها. ما أن نفتقد البيوت حتى نصبح أقل من بشر.
في مدن العالم المتقدّم المزدحمة تتفاقم أزمة المشرّدين يومًا بعد يوم. هذه المدن، مزدهرة وواعدة إلى الحد الذي يجعل الناس في القرى والأرياف والمدن البعيدة، وفي أقاصي العالم وخارج الحدود، تحسب أن فرصتها في السعادة حالّة في تلك المدن. وأن لم تكن هناك فلن تكون في مكان آخر. هكذا يهاجر إليها كل الطامحين والجريئين، وتضعهم على قائمة الانتظار. في الأثناء يتساقطون واحدًا إثر الآخر في هوّة التشرّد. وما أن يستقروا في هذه الهوة، حتى يفقدوا كل ما كان يميّزهم كبشر.
“لم تعد المدن المعاصرة تحتمل حتى مجرد مشهد المشرّدين في شوارعها، فصمّمت مقاعدها العامة بطريقة تمنعهم من النوم عليها، وضيّقت أرصفتها في وجوههم، كأنها تريد محو آخر آثار إنسانيتهم”
يصبحون مجرد كتل متحرّكة فائضة عن حاجة أي كان. حتى الرغبة في التسلّط عليهم تخفت رويدًا رويدًا، ولا يعود ثمة من يرغب بالاعتداء على امرأة منهم أو تسخير رجل. ذلك أن العلاقة المباشرة مع الطبيعة، حتى حين يكون المحيط مدينيًا، تجعل من المرء معديًا وخطيرًا وغير آمن لمجرد اللمس. على نحو ما باتت الطبيعة مصدر خوفنا وحذرنا، وبتنا نحاربها بمساحيق التنظيف وأنواع الصابون والمطهّرات.
ما أن يفقد المرء سقفًا يأويه، حتى يتحوّل من إنسان إلى كائن. كائن لا تعرف هويته ولا يمكن التفاهم معه. ونوكل مهمة إبعاده عن ناظرينا، وإبقاءه على قيد الحياة إلى مؤسسات رسمية وغير رسمية تهتم بإخفاء أثره، أو كشط كل ما علق على جلده من ظروف الطبيعة وأحوالها، حتى يتسنى له العودة إلى قائمة البشر.
في الحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، تبدو هذه المسألة حيوية جدًا للمعتدى عليهم. المشاهد التي تصدّرها وسائل الإعلام من غزة توحي بأن الناس هناك ما عادوا أفرادًا، وقد تحوّلوا سوادًا، كالسواد الذي يصف به المؤرخون عامة بغداد. سواد، لأنهم لا يملكون ما يميّز واحدهم عن الآخر في عين الناظر. ليس لديهم بيوت: يعيشون في الركام، والركام أيضًا سواد، وليس لديهم أحياز للانفراد بأنفسهم: يدبّرون شؤونهم كلها على الطرقات وفي الخيام وبين الركام، وهم إلى ذلك، مجبرون على الانتقال من مكان إلى آخر، حين يتعرّضون للتهديد. وحين ينتقلون، فإنهم ينتقلون بما يشبه انتقال التائهين في روايات التوراة. بلا أمل وبلا وجهة. جوعى وعطشى، وليس ثمة أمل في إرواء عطشهم وإشباع جوعهم، وتأمين نومهم. إنهم هناك في اللامكان. أو في المكان الذي فقد صفته لأن البيوت فيه لم تعد بيوتًا.
في لبنان الأمر مختلف بعض الشيء. لكن النتيجة مشابهة. ثمة من كانوا يقفون على مبعدة عشرات الأمتار من المباني المهدّدة بالقصف، يصوّرونها وهي تموت، ويبثّون صورها على وسائل التواصل الاجتماعي، في استعادة لحفلات الإعدام التي كانت تقيمها السلطات في الساحات العامة في القرون الوسطى.
سلطات ذلك الزمن كانت تهدف إلى ترهيب العامة وتأكيد سلطتها على حياتهم وموتهم. وكان الناس يجتمعون في الساحات لمعاينة حدود سلطتها على حياتهم وموتهم وهي في أكثر لحظاتها تجليًا وتعبيرًا: لحظة إزهاق روح المتمرّد أو المهرطق أو الثائر.
بيوت اللبنانيين اليوم تخضع إلى هذه العقوبة. العقوبة التي يراد من تنفيذها إرهاب الناس، سكان هذه البيوت وكل من يسكن بيتًا في أي مكان من البلاد. الإصرار على مشهدية هذه العقوبة يراد منه التأكيد أن من يملك السلطة على حياة الناس وموتهم في هذه البلاد هو إسرائيل نفسها، وأن بقاء من بقي على قيد الحياة ليس أكثر من منّة تمن بها الطائرات على سكان هذه البيوت والنازحين منها على حد سواء.
هذه الحرب، ليست جريمة ضد الإنسانية فحسب، إنها جريمة ضد المعاصرة، لأنها لا تستهدف البشر فقط، بل تستهدف قدرتهم على البقاء قيد المعاصرة، وتحاول إعادتهم إلى مجاهل التاريخ.
شارك هذا المقال