في خطوة ذات رمزية عالية، لم يسارع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أثناء زيارته الأخيرة لدمشق إلى الصلاة في المسجد الأموي، ربما تاركاً هذا التتويج للرئيس رجب طيب أردوغان ليقوم به شخصياً إظهاراً لإيفائه بتعهده السابق، بل فضّل أن يعتلي قمة جبل قاسيون ليقبض بنظراته على جغرافيا العاصمة السورية المترامية حوله، ولسان حاله يقول: عدنا يا دمشق.
عمليّاً دشَّن هاكان فيدان بصفته الرسمية وزيراً للخارجية مسار الاعتراف بالنظام الجديد في سوريا. فهو أول وزير خارجية يزور دمشق ويلتقي أحمد الشرع (الجولاني) وسط حفاوة كبيرة من الأخير وفريقه. وجاءت زيارة فيدان بعد أقل من أسبوعين على الزيارة التي قام بها رئيس الاستخبارات التركية إبراهيم كالن بصحبة نظيره القطري عبدالله الخليفي.
وبغضّ النظر عمّا يقال عن دور كالن في تبنّي استراتيجية الجولاني في سوريا على عكس ما كان يعمل عليه فيدان عندما كان رئيساً للاستخبارات، فإن تركيا بكل أجنحتها وتياراتها تحتفل اليوم، ليس بسقوط نظام بشار الأسد وحسب، بل قد يكون احتفالها الحقيقي عائداً لأسباب جيوسياسية تتحفّظ عن الاستعراض بها في خضم هذه المرحلة الانتقالية الحساسة، لكنها ظهرت مع ذلك بشكل أو بآخر في ثنايا بعض التصريحات والخطوات، وخصوصاً في اعتلاء قمة قاسيون لما لهذه القمة من رمزية كبيرة في وجدان السوريين كونها تمثل رمزاً لقوة بلادهم وحصانتها ضد أي غزو خارجي.
لكنّ هذا لا يعني بأي حالٍ من الأحوال أن تركيا نجحت بالكامل في وضع سوريا تحت عباءتها. إذ لا يزال الدرب طويلاً نسبياً للوصول إلى هذا الهدف، ومن دون تحقيقه مطبات كثيرة وحقول ألغام قد تنفجر في أي وقت. وليست إيران وإن رفع مرشدها صوته لإثبات حضوره بعد الهزيمة التاريخية التي مني بها، من بين هذه المطبات والحقول لأن التطورات في سوريا تجاوزتها وجعلتها غير قادرة على التأثير الحقيقي في المشهد الداخلي.
ومن المؤسف القول إنه حتى السوريين، بأحزابهم وميولهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم المختلفة، لا يشكلون أي عقبة في وجه انزياح سوريا من ضفة إلى أخرى، فهم منهكون ومقسمون، وخصوصاً الشرائح التي لديها تحفظات عن طريقة استبدال السلطة في سوريا والتي يرون أنها فرضت عليهم إما بقوة السلاح أو بقوة التدخلات الخارجية.
المقارنة البسيطة بين استقبال فيدان في دمشق الذي كان حافلاً بالصور والتصريحات، وتضمن أول مؤتمر صحافي للجولاني، وبين غياب الصور عن استقبال وفدين آخرين هما الوفد الأميركي برئاسة باربرا ليف، والوفد السعودي برئاسة وزير الدولة مساعد العيبان، تكشف عن وجود اختلاف في مقاربة هذه الدول لطريقة التعاطي مع النظام الجديد في سوريا.
وليس هذا الاختلاف محض اختلاف شكلي، بل جاءت تصريحات الوفد الأميركي كي تضع بعض النقاط على الحروف تاركة الصورة غير واضحة تماماً، لا سلباً ولا إيجاباً.
وقد كشفت ليف في نهاية زيارتها عن قرار الإدارة الأميركية القاضي بإلغاء مكافأة العشرة ملايين دولار لقاء معلومات عن الجولاني من دون رفع اسمه الشخصي – علماً أن قرار الأمم المتحدة صنّف الجولاني بهويته العراقية وليس باسمه الحقيقي المعروف به الآن – ولا اسم تنظيمه عن قائمة الإرهاب، ما يدل على أن واشنطن تنتهج مع النظام الجديد سياسة “خطوة خطوة” والتدرج بها قبل منحه الشرعية الكاملة. ويبدو هذا المسار محفوفاً بتحديات كثيرة، خصوصاً مع الغموض الذي يلف مصير “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) في ظل تعنت أنقرة إزاءها، وكذلك مع مواصلة إسرائيل توغلاتها في الجنوب السوري من دون أن يكون واضحاً الهدف الأخير لها ومدى انعكاساته المحتملة على المرحلة الانتقالية.
وينبغي في هذا السياق عدم التغافل عن الدعاية التي تروج لها بعض وسائل الإعلام المقربة من تركيا وقطر ومفادها أن تركيا أنقذت سوريا من مشروع إسرائيلي كان يستهدف تقسيمها، ما يشير إلى وجود كباش تركي – إسرائيلي بشأن مستقبل سوريا.
وبالفعل فإن شبح التقسيم لا يزال يحوم فوق الأراضي السورية، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، خصوصاً في ظل وجود قوات أربعة جيوش في البلاد، القوات الأميركية التي كشف عن عددها الحقيقي الذي يبلغ 2000 بدلاً عن عدد 900 الذي كان معترفاً به، وهي تسيطر على شرق نهر الفرات. والقوات التركية في شمال حلب. والقوات الإسرائيلية المتوغلة في الجنوب، وكذلك بقاء القوات الروسية حتى تاريخه في قاعدتي حميميم وطرطوس.
وفي ظل التماهي بين القوات التركية والإدارة الجديدة في سوريا، واحتمال أن تغادر القوات الروسية أو تظل لفترة محدودة ضمن ضوابط واتفاقات جديدة، وفي ظل “اضطرار” القوات الأميركية للبقاء بذريعة حماية “قسد” والتصدي لـ”داعش”، ومع غموض أهداف التوغل الإسرائيلي، يتخوف السوريون من أن يكون مصير بلادهم مشابهاً لمصير العراق الواقع تحت النفوذين الإيراني والأميركي، لكن في سوريا الجديدة سوف تحل تركيا محل إيران.