على أطلال وطن مزقته حرب دامت أكثر من عقد، تتشابك خيوط الأمل بالحنين لتنسج حكايات العودة، أرضٌ أنهكها الدمار واستنزفتها المآسي، لكنها لم تفقد يوماً نبض الحياة، ومع سقوط نظام الأسد، كُسر القيد الذي كبّل ملايين السوريين، مفسحاً المجال لرحلة العودة إلى الديار التي كانت شاهدة على نكبة وجرح عميق.
في كل ركن من أركان سوريا، تترقب العيون الغد بشغف، فيما تغوص القلوب في بحر الذكريات، حيث كانت البيوت آمنة والأحلام مشرقة، اليوم، تبدأ ملامح خريطة سكانية جديدة بالتشكل، بين نازحين استقروا في بيوتهم الأصلية وآخرين عادوا من دول الجوار، وبين لاجئين في الشتات الأوروبي يترددون بين العودة والبقاء.
إنها رحلة معقدة تتخللها تحديات اقتصادية، اجتماعية، ونفسية، لكنها في جوهرها شهادة على إرادة شعب عازم على استعادة وطنه وبناء حاضره ومستقبله، ولو على أنقاض الأمس، فهل تلتئم الجراح وتتسع الأرض لأحلام العائدين؟ أم أن الطريق إلى سوريا جديدة ما زال محفوفاً بالمجهول؟
سوريا بعد سقوط الأسد
فرح السوريون اللاجئون في دول الشتات في مختلف أنحاء العالم والنازحون داخل الأراضي السورية بسقوط نظام الأسد الذي هجّرهم، ودمّر منازلهم، وحرق أراضيهم، وأبعدهم عن ديارهم لأكثر من 13 عاماً، ووفقاً لمفوضية الأمم المتحدة، يبلغ عددهم 13.8 مليون شخص داخل وخارج البلاد بحلول نهاية عام 2023.
شكّل سقوط النظام ورئيسه بتاريخ 8 كانون الأول عام 2024 إثر معركة “ردع العدوان” دافعاً لعودة النازحين الداخليين إلى مدنهم الأصلية، بعد أن كانوا محصورين لعقد من الزمن في منطقة صغيرة جغرافياً شمال غربي سوريا تشمل قسماً من محافظة إدلب ومناطق من شمالي محافظة حلب، إضافة إلى وجود السوريين في مختلف دول العالم مثل تركيا، العراق، الأردن، لبنان، ألمانيا، هولندا، وغيرها.
الحركة السكانية الداخلية
بعد عام 2011، شهدت سوريا موجات نزوح داخلي كبيرة ومتزايدة، تأثرت بشكل مباشر بتغير مناطق السيطرة بين فصائل المعارضة السورية، وقوات نظام الأسد المخلوع، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وتبلورت هذه الموجات بشكل رئيسي في نزوح ما يقارب 6.6 ملايين شخص داخلياً، وهي حركة ضخمة ذات تأثيرات واسعة على البنية السكانية والاجتماعية في البلاد؛ حيث تمركز معظم هؤلاء النازحين في مناطق شمال غربي سوريا، التي أصبحت موطناً جديداً لهم بعد نزوحهم وتهجيرهم قسرياً من مختلف المحافظات السورية، خصوصاً من حمص، دمشق، ريف دمشق، بالإضافة إلى حماة، درعا، وحلب، نتيجة الأوضاع المأساوية في تلك المناطق التي تعرضت لدمار كبير وقصف مستمر.
حالياً، وبعد إسقاط النظام، ظهرت عدة أنماط من الحركات السكانية التي يمكن وصفها بأنها تركزت بشكل رئيسي داخل مناطق الشمال السوري، سواء من حيث التوجه إليها أو منها.
ووفقاً لما رصد موقع تلفزيون سوريا، كانت الحركة نحو الشمال السوري محدودة مقارنة بفترات النزوح الكبرى السابقة، ومع ذلك، شهد الشمال حركة سكانية متواصلة، مثل عودة عدد من السكان الأكراد النازحين إلى بيوتهم في مدينة عفرين، بعد أن كانوا قد نزحوا باتجاه مناطق مثل تل رفعت إثر معركة غصن الزيتون.
أما بالنسبة للحركة من الشمال السوري باتجاه مختلف الأراضي السورية، فقد بدت حتى الآن تدريجية للغاية وبطيئة، ويمكن وصفها بأنها “حركة استطلاعية” أكثر من كونها موجة عودة شاملة، ففي أغلب الحالات، يتوجه السكان للاحتفال بسقوط النظام في مدنهم وقراهم وللاطلاع على أحوال منازلهم وأحيائهم التي تركوها منذ سنوات، لكنه سرعان ما يعود أغلبهم إلى مناطق إقامتهم الحالية في شمالي سوريا، وهذا يعني أن العودة ما تزال جزئية ولم تصل إلى مرحلة العودة الجماعية أو النهائية.
أسباب التردد في العودة
تعود أسباب تأخر العودة إلى عدة تحديات رئيسية، أبرزها الدمار الواسع الذي طال العديد من المناطق في سوريا، مثل ريف حماة الشمالي، وريف إدلب الجنوبي، وريف حلب الغربي، بالإضافة إلى حمص المدينة وريفها، وريف دمشق والغوطة الشرقية، وبعض المناطق في درعا، هذا الدمار طال البنية التحتية والخدمات الأساسية، مما جعل تلك المناطق غير مهيأة لاستيعاب السكان العائدين بالكامل.
وعلى سبيل المثال، تعاني هذه المناطق من نقص حاد في الخدمات الضرورية مثل المياه والكهرباء والإنترنت والنظافة العامة، بالإضافة إلى ذلك، ما يزال الوضع الأمني في تلك المناطق هشاً وغير مستقر، مما يجعل العودة الكاملة والآمنة أمراً بعيد المنال في الوقت الحالي.
من جهة أخرى، ترتبط حركة العودة بعوامل حياتية واجتماعية تتعلق بالسكان أنفسهم، كثير منهم لديهم أبناء يدرسون في المدارس، ولا يرغبون في انقطاعهم المفاجئ عن الفصل الدراسي، حيث يمكن أن يؤثر ذلك على مستواهم التعليمي مستقبلاً، كما أن العديد من النازحين قد أقاموا مشاريع اقتصادية في أماكن نزوحهم، سواء كانت محال تجارية أو أعمالاً صغيرة، بالإضافة إلى التزامات مالية مثل الديون، ما يجعل من الصعب عليهم التخلي عن هذه الروابط الاقتصادية بشكل مفاجئ. لذا، فإن العودة تحتاج إلى وقت طويل لترتيب هذه الأوضاع وتصفية الارتباطات.
تحديات العودة
فيما يخص العوائق التي تواجه النازحين الراغبين في العودة، تحدثت سعاد الرجب، وهي نازحة من قرية معرزيتا بريف إدلب، قائلة: “لن أستطيع العودة إلى منزلي في القرية لأنه مدمر بشكل كامل، لكنني سأبدأ بزراعة أراضيّ الزراعية حتى أتمكن من العودة لاحقاً وأعيد بناء منزلي بمساعدة عائلتي”.
من جهة أخرى، يواجه النازحون تحديات نفسية أيضاً، عمر الأحمد، نازح من محافظة حماة، أشار في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، إلى أنه عندما عاد مؤخراً لزيارة مدينته، شعر بشعور نفسي غريب، وقال في مقابلة مع تلفزيون سوريا: “بعد 11 عاماً من النزوح إلى إدلب، شعرت أنني في مكان غريب عندما زرت حماة، أصبح لدي شعور بالانتماء إلى إدلب التي تعودت عليها كموطن لي، مما جعلني في حالة من التردد والتشتت بشأن قرار العودة إلى منزلي الأصلي”.
بشكل عام، من المتوقع أن تستمر هذه الديناميات السكانية متوسطة الأمد، مع تحسن تدريجي في الأوضاع، ومع تنامي الحد الأدنى من الخدمات في بعض المناطق، وقد نشهد زيادة تدريجية في حركة التنقلات الداخلية، وإن كانت ستبقى بطيئة ومترددة حتى تتوفر الظروف المناسبة للعودة الآمنة إلى المناطق الأصلية للسكان.
حركة السكان من دول الجوار باتجاه سوريا
مع الإعلان عن سقوط نظام الأسد بتاريخ 8 كانون الأول 2024 وهروب رأس النظام السابق بشار الأسد، بدأت حركة عودة اللاجئين السوريين من دول الجوار تشهد نشاطاً ملحوظاً، خاصة من لبنان وتركيا.
المعابر الحدودية التي تربط سوريا بهاتين الدولتين امتلأت باللاجئين العائدين الذين كانوا ينتظرون هذا اليوم منذ سنوات طويلة.
لبنان، الذي استضاف قرابة 1.5 مليون لاجئ سوري على مدار العقد الماضي، شهد تدفقاً كبيراً للعائدين من اللاجئين الذين كانوا يعيشون في ظروف إنسانية قاسية داخل المخيمات والمناطق الفقيرة وتأثروا بالحرب الإسرائيلية على لبنان، لذلك، قرر كثير منهم العودة فوراً بمجرد تأكدهم من سقوط النظام، حيث إن معظم هؤلاء اللاجئين توجهوا إلى مناطقهم الأصلية في محافظات حمص، حماة، وريف دمشق، رغم علمهم بأن الدمار لا يزال يخيم على تلك المناطق والخدمات ضعيفة.
وقال أمجد السنكري، وهو نازح من حمص كان مقيماً في لبنان وعاد إلى حمص بعد عدة أيام من سقوط النظام: “لم نصدق أن اليوم الذي انتظرناه طويلاً قد جاء، رغم أن الوضع صعب، فالقلب يشتاق لوطنه، ونحن مستعدون للعودة حتى ولو كان كل شيء مدمراً، لأننا نريد أن نعيد بناء حياتنا هناك”.
أما في تركيا، التي كانت تستضيف أكبر عدد من اللاجئين السوريين والذين بلغ عددهم في آخر إحصائيات أقل من 3 ملايين شخص وفقاً لإعلان الحكومة التركية، فقد بدأ السوريون بالعودة التدريجية، حيث شهدت معابر مثل باب الهوى وباب السلامة حركة نشطة.
عاد آلاف السوريين خلال الأيام الأولى التي أعقبت سقوط النظام، كما أن اللاجئين العائدين من تركيا، مثل نظرائهم في لبنان، كانوا مدفوعين بالأمل في استعادة حياتهم الطبيعية رغم التحديات المنتظرة، البعض منهم عاد إلى مدن مثل حمص ودمشق، فيما اختار آخرون التوجه نحو مناطق شمالي سوريا حيث تتوفر بنية تحتية وخدمات أفضل نسبياً.
ناصر السراج، عائد من تركيا، يقول لموقع تلفزيون سوريا: “عدت إلى مدينتي حمص لأنني أريد أن أرى عائلتي التي ابتعدت عنها منذ عام 2018 وأريد رؤية مدينتي حتى وإن كانت مدمرة، لأنه لا شيء يعادل العودة إلى الوطن، سأبدأ من جديد، فكل شيء ممكن في وطننا الآن بعد سقوط النظام”.
رغم سقوط نظام الأسد وهروب رئيسه، فإن حركة عودة اللاجئين السوريين من الأردن لا تزال ضعيفة مقارنة مع لبنان وتركيا، فالأردن استضاف نحو 670 ألف لاجئ سوري وفقاً لإحصائيات عام 2020، حيث تركزت الغالبية العظمى من هؤلاء اللاجئين في المخيمات أو المناطق الحضرية، وعلى الرغم من أن بعض اللاجئين في الأردن أبدوا رغبة في العودة إلى وطنهم، فإنهم يشعرون بتحفظ بسبب استمرارية الوضع الأمني الهش في بعض المناطق الجنوبية مثل درعا والقنيطرة.
في معبر نصيب-جابر الحدودي بين سوريا والأردن، كانت هناك حركة عودة محدودة، لكن معظم اللاجئين فضلوا الانتظار حتى تتحسن الظروف الأمنية والخدمية في مناطقهم الأصلية.
الدمار الواسع للبنية التحتية في تلك المناطق وعدم استقرار الأوضاع جعل العودة قراراً صعباً للبعض، العديد من اللاجئين في الأردن أبدوا ترددهم، إذ إن ظروفهم المعيشية هناك أصبحت مستقرة نسبياً مع توفر التعليم والخدمات الصحية.
العودة من الدول الأوروبية
فيما يخص حركة اللاجئين السوريين المقيمين في الدول الأوروبية باتجاه سوريا، بقيت ضعيفة جداً. السوريون اللاجئون في تلك الدول، مثل ألمانيا، هولندا، السويد، وفرنسا، لم يتأثروا بشكل كبير بالإعلان عن سقوط النظام فيما يخص استقرارهم، رغم فرح نسبة كبيرة منهم وإقامتهم للاحتفالات. وذلك يعود إلى الحياة المستقرة التي يوفرها النظام الأوروبي، سواء من حيث التعليم، الرعاية الصحية، أو الفرص الاقتصادية، مما جعل العودة إلى سوريا أمراً غير مغرٍ لكثيرين في الوقت الراهن.
معدل العودة إلى سوريا من هذه الدول لا يتعدى في الوقت الحالي سوى نسبة صغيرة جداً من اللاجئين الذين قرروا العودة بشكل عام؛ حيث كانت العودة مرتبطة أكثر بالأسر التي فقدت الاتصال بأفراد من عائلاتها في سوريا أو الذين قرروا زيارة منازلهم للاطمئنان عليها. ومع ذلك، يبدو أن السوريين في أوروبا، يفضلون الانتظار حتى تصبح الأوضاع أكثر استقراراً في سوريا قبل اتخاذ قرار العودة بشكل دائم. في حين بدأت الحكومات المستضيفة للاجئين في الدول الغربية بتقديم حوافز مالية لتشجيع اللاجئين السوريين على العودة إلى بلدهم الأصلي سوريا.
توقعات تموضع السكان في سوريا خلال الأعوام الثلاثة القادمة
توزع النازحين في سوريا خلال السنوات الأخيرة كان بين المخيمات على حدود دول جوار سوريا، خاصة تركيا، إضافة إلى داخل الدول مثل تركيا، ولبنان، والأردن، والعراق، ومصر، حيث عاش معظمهم في ظروف قاسية، إضافة إلى المقيمين في الدول العربية والغربية.
ومع الإعلان عن سقوط النظام والتحسن التدريجي في الأوضاع داخل سوريا، يتوقع أن تتغير خريطة تموضع السكان بشكل كبير خلال الأعوام الثلاثة المقبلة، حيث تتوزع التوقعات الخاصة بتحديد أماكن تموضع السكان كما يلي:
محافظة حلب (مع ريفها): تعتبر حلب من أبرز المحافظات التي يتوقع أن تشهد زيادة كبيرة في عدد السكان؛ حيث يتوقع أن يصل عدد السكان في حلب وريفها إلى نحو أربعة ملايين نسمة على أقل تقدير، مما يجعلها المحافظة الأكبر من حيث تعداد السكان، وذلك لأنها ستستمر بكونها مركزاً اقتصادياً رئيسياً في سوريا، وهي بالأصل معروفة بكونها العاصمة الاقتصادية.
محافظتا دمشق وريفها: يتوقع أن تكون دمشق وريفها ثاني أكبر محافظة في سوريا من حيث عدد السكان العائدين لها، ويتوقع أن يصل عدد السكان فيها إلى نحو ثلاثة ونصف مليون نسمة، وذلك لما سيكون لدمشق من تمركز للمنظمات الدولية والإنسانية والسفارات، كما أن الريف الدمشقي يحتوي على أراضٍ زراعية تشجع على العودة والعمل بها.
محافظة اللاذقية: من المتوقع أن يصل عدد السكان في محافظة اللاذقية إلى ما بين مليوني ونصف إلى ثلاثة ملايين نسمة، لكونها على الساحل السوري وأصبح لدى كثير من السوريين رغبة في السكن على البحر. فقد اعتاد قسم كبير منهم في أثناء اللجوء على السكن في مناطق بحرية، كما أنها ستكون مركزاً تجارياً مرتبطاً بالتصدير والاستيراد، ولكونها لم تتعرض لدمار كبير، فإن ذلك يجعلها مرشحة لتكون من المحافظات ذات الكثافة السكانية العالية.
محافظات حماة، حمص، وإدلب: من المتوقع أن تكون هذه المحافظات مهمة بشكل خاص في السنوات الخمس المقبلة، حيث يُتوقع أن يتراوح عدد سكان كل من حماة، حمص، وإدلب بين أكثر من مليوني نسمة لكل محافظة، لكن في الوقت الراهن، لن يكون هناك توجه سكاني كبير، خصوصاً نحو مدينة حمص التي تعرضت لدمار كبير بسبب العمليات العسكرية التي قام بها جيش النظام على مدار سنوات، في المقابل، سيستمر وجود السكان بشكل كثيف في إدلب، التي امتلكت النموذج الأولي من التنظيم الإداري والاقتصادي والأمني الذي يُتوقع أن يعمم على سوريا.
وبناءً على هذه الأرقام الأولية، يُتوقع أن يتمركز نحو عشرة ملايين شخص في ثلاث محافظات رئيسية: حلب، دمشق، واللاذقية، وهذا يعكس تغييراً كبيراً في خريطة التوزع السكاني في سوريا في المستقبل القريب.
من المتوقع أن تشهد حركة السكان في سوريا خلال الأعوام القادمة تحولات كبيرة نتيجة لتداعيات الحرب الطويلة التي مرّت بها البلاد، مع سقوط نظام الأسد وتداعياته على الوضع الأمني والسياسي في البلاد، بدأ العديد من السوريين في العودة إلى وطنهم بعد سنوات من التهجير والنزوح، ورغم التحديات الكبيرة التي لا تزال قائمة، مثل الدمار الواسع ونقص الخدمات الأساسية، فإن التوقعات تشير إلى أن حركة السكان ستستمر في النمو والانتقال مع مرور الوقت، خاصة نحو المناطق الأكثر أماناً واستقراراً مثل حلب، ودمشق، واللاذقية، وإدلب، لكن العودة الجماعية والتوطين الدائم لن تتم بشكل سريع، بل ستكون عملية تدريجية تعتمد على تحسين الظروف الأمنية والمعيشية، ويبقى الأمل في إعادة بناء سوريا وتحقيق الاستقرار والنمو، مما يفتح آفاقاً جديدة للمستقبل ويعيد بناء ما دمرته سنوات الحرب والتهجير على يد جيش الأسد.