لا تزال إيران تقف خارج جدلية “المقاومة” التي انهت الحرب الإسرائيلية الحالية، عناوينها الرئيسية المعتمدة منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، عندما حُصر السلاح المقاوم بيد الإسلاميين، شيعة وسنة، وأُعفيت سوريا، من عبء القتال، وظلت ، حتى سقوط نظامها الاسدي قبل أسبوعين، مصنفة كجبهة إسناد خلفية ترعى التفاوض، باسم “المقاومين”، على خطف الرهائن الأجانب او على اتفاقات وقف النار، أو على الاثنين معاً..
كانت تلك الحقبة، حقبة السلاح العربي المقاوم، المدعوم والممول من إيران، نتيجة عملية لهزيمتين عربيتين ساحقتين، حرب تشرين العام 1973، حرب لبنان العام 1982.. حيث كاد العدو الإسرائيلي يدخل الى عاصمتين عربيتين هما القاهرة ودمشق، ثم دخل الى العاصمة الثالثة، بيروت، وإستباحها بشكل كامل، هي ومنظمة التحرير الفلسطينية.. ولم يتمكن من صرف أنظار العرب يومها عن الشاشات التي كانت تنقل نهائيات كأس العالم في كرة القدم في اسبانيا.
من تلك المقدمة بدأ التأريخ للدور الإيراني في المشرق العربي، الذي سعى الى وراثة منظمة التحرير ونقلها من حضنها العربي، ثم الى تكريس الحلف المقدس مع النظام الاسدي في سوريا، وصولا الى إنشاء حزب الله، كذراع طويل في جميع معارك طهران الخارجية، ثم الى التوغل مجددا في العراق من خلال ميليشيات “الحشد الشيعي” في اعقاب الاحتلال الأميركي العام 2003، وفي الوضع الفلسطيني من خلال حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وإنتهاء بالحركة الحوثية، آخر قلاع التوسع الإيراني، التي لا تزال تطلق منها الصواريخ البالستية على تل ابيب.
وعلى الرغم من أن إسم دمشق ورد في لائحة العواصم العربية الأربع التي زعم بعض الإيرانيين من أصحاب الرؤوس الحامية والعقول الفارغة، أن إيران تسيطر عليها، إلا أن العاصمة السورية كانت تناقض تلك الفرضية الخرقاء، عندما فشلت في الدفاع عن النظام الاسدي في السنوات الأولى من الثورة، وإضطرت الى توسل التدخل الروسي، أو عندما أخفقت في استرداد مبلغ خمسين مليار دولار انفقتها على ذلك النظام..أو عندما وجدت نفسها خائبة ومعزولة، إثر سقوط ذلك النظام وفرار رئيسه بشار الأسد الى روسيا..عبر الأجواء التركية.
منذ البداية كانت طهران، تتسلل من ثقوب الهزائم العربية، لتعوض هزيمتها الأولى أمام العراق، ولتبني محوراً يعينها في مواجهة نكسة تصدير الثورة، ومهمة صون الدولة، التي قال أحد مسؤوليها قبل أيام بالذات أنها ما زالت بحاجة الى دائرة نفوذ يزيد قطرها عن خمسة آلاف كيلومتر.. في واحدة من من أغرب حالات الانكار لضيق تلك الدائرة حتى داخل الحدود الإيرانية نفسها.
لعل هذا الكلام، قفز إيراني فوق السطوح، ينتمي الى فرضية السيطرة على العواصم الأربع، لكن كلام المرشد علي خامنئي نفسه، لا يخرج عن سياق الانكار للمسافة القصيرة التي تفصل إيران اليوم عن هزيمة ساحقة، تشبه الهزائم العربية المتلاحقة، وتعادل او ربما تفوق هزيمتها نفسها امام عراق صدام حسين في العام 1988. وقد تدرج موقف خلال الحرب الإسرائيلية الراهنة خامنئي من نفي انكسار محور المقاومة، الى رفض غياب قادته الواحد تلو الآخر، الى النأي بالنفس عن معارك ذلك المحور، وآخرها معركة اليمن، وانتهاء بالإعلان عن ثقته المطلقة بان هذا المحور لن يموت ولن يفنى، بل هو سينتج جيلا جديداً من المقاومين..السوريين هذه المرة، لقتال الاميركيين والصهاينة، ومعهم الاتراك المتورطين في اطاحة نظام بشار الأسد “المقاوم”!
اللغة الواردة هذه الأيام من طهران، سواء في تقدير موقف محور المقاومة، او بالتحديد في تحليل الحدث السوري الفريد من نوعه، تفصح عما في العقل الإيراني من ثغرات في قراءة أي حدث عربي، سواء كان إنكساراً أمام العدو الإسرائيلي، أو إنتصاراً على النظام الاسدي المشين..وهو ما يعزز الحاجة الى خوض معركة رفع الحجاب عن إلايرانيين، رجالاً ونساء.
بيروت في 22/12/2024