تعتبر سوريا، بتنوعها الاجتماعي والثقافي والإثني، أرضاً لجماعات متعددة، وموقعها الجغرافي المميز كجسر يربط بين الشرق والغرب والجنوب والشمال، جعلها عبر التاريخ محل أطماع وتدخلات قوى إقليمية متصارعة.
هذا الأمر أدى إلى تنوع ولاءات الجماعات المحلية وعمّق الخلافات البينية التي تحوّلت أحياناً إلى صراعات أذكتها تلك القوى المتنافسة.
لم تقتصر هذه الخلافات على الانحيازات المصلحية أو التبعية المفروضة بالقوة من القوى الأجنبية، بل ظهرت أيضاً انقسامات ثقافية جهوية بين الريف والمدينة، هذا الانقسام ذو جذور تاريخية تناولها المفكر الدكتور برهان غليون في أطروحته لنيل الدكتوراه، حيث درس فيها الانقسامات السورية بتفصيل.
بعد انقلاب عام 1963، مُنع المجتمع السوري من ممارسة السياسة بشكل ممنهج، وتكرّس هذا المنع بعد انقلاب حافظ الأسد، عام 1970، خصوصاً بعد الصراع الأمني مع الإخوان المسلمين، أصبحت السياسة خطاً أحمر يُعرّض صاحبها لخطر الاعتقال أو الإقصاء.
وقد انتشرت مقولة بين الآباء لأبنائهم المعارضين قبل الثورة: “اشتغل بأي شيء إلا السياسة”، مما جعل السياسة مكروهة اجتماعياً بسبب المخاوف من المصير المأساوي الذي ينتظر كل من ينخرط فيها.
في الساحل السوري، عانى المعارضون وأسرهم، خاصّة أسر أعضاء حزب العمل، من نبذ اجتماعي، إذ وصلت الأمور إلى حد منع الزواج من بنات هذه الأسر في بعض الحالات، ما أحدث انقسامات عميقة حتى داخل العائلات.
بعد ثورة آذار 2011
بالنسبة للنظام ومؤيديه، لم تكن أحداث آذار 2011 سوى محاولة انقلابية على الوطن، إذ اعتبر النظام نفسه ممثلاً للوطن ومختزلاً له في شخص بشار الأسد، ومن ثم، رأى النظام أن التظاهرات والاعتصامات تعبير عن “خيانة” تحركها جهات خارجية.
تريّث النظام في اتخاذ قرار المواجهة المسلحة لمدة شهر أو شهرين، قبل أن يحوّل الانتفاضة السلمية إلى صراع مسلح. وقد صرح حسن نصر الله بعد شهر من بدء الاحتجاجات بأنه يؤيد مطالب الشارع، لكنه عاد بعد أسبوع ليعلن دعمه للقيادة الإيرانية، ما يعني وقوفه ضد الشعب السوري.
بحسب الدكتور برهان غليون، فإن مسؤولاً إيرانياً نصح بشار الأسد بالبقاء في سوريا وتسليح الشعب لمواجهة الاحتجاجات، وهو ما تم تبنيه في اجتماع سري استمر ثلاثة أيام في دمشق بحضور الأسد وعدد من المسؤولين، اتُخذ فيه قرار مواجهة المتظاهرين بكل الوسائل، مع توصيات بتحويل الانتفاضة إلى صراع طائفي، وهي استراتيجية دعمتها أطراف إقليمية متباينة.
منذ البداية، عمد النظام إلى إثارة التوترات الطائفية، بإرسال مجموعات مراهقين لرفع شعارات طائفية والاعتداء على الممتلكات، كما يذكر الدكتور منير شحود في كتابه “الانفجار الكبير”، وقد أشار “شحود” إلى حادثة ذات دلالة كبيرة، حين ألقى أحد رجال الأمن اللوم على جهاز الأمن نفسه في مقتل أخيه، مما يؤكد دور الأجهزة الأمنية في افتعال الانقسامات.
ظهر الانقسام بين الريف والمدينة بوضوح خلال الثورة، كما في حالة حلب، حيث نُهبت بيوت في أحياء غنية، ونُسبت هذه الأفعال إلى جماعات معارضة مسلحة. هذا الحدث أبرز انقساماً طبقياً واجتماعياً بين أغنياء ملاك وفقراء ثوار، وبين مجتمع ريفي زراعي وآخر مدني تجاري.
في مثال آخر، مع نزوح أعداد كبيرة من سكّان دير الزور إلى دمشق، ظهرت أحاديث عن تغيير ديمغرافي، ما يعكس انقساماً اجتماعياً وجهوياً بين الريف والمدينة.