كان هروب بشار الأسد وسقوط النظام السوري سريعاً، مفاجأة أخذت الكثيرين على حين غرّة، وبقي السؤال والتخمينات حول ما حصل في الليلة الأخيرة محط الجهود الصحافية، إذ نشرت “فايننشال تايمز” تقريراً أُنجز بناءً على معلومات من “مقربين” من الأسد، يصف آخر ليلة للرئيس المخلوع في دمشق. كذلك نشرت “بي بي سي” لقاءً مع حافظ منذر الأسد (ابن عم بشار)، يشرح فيه كواليس الليلة الأخيرة.
عدد لامتناهٍ من الحكايات التي ستتناسل الآن ولاحقاً حول هروب الأسد، خصوصاً أننا أمام انهيار آخر نظام بعثي في المنطقة، بعد نظام صدام حسين، والليالي الأخيرة ستكون محركاً للحكايات، والأسئلة الكثيرة، التي تبدأ من السؤال عن حقيقة المسيّرة التي يقال إنها استهدفت القصر الجمهوري في دمشق، انتهاءً بالثياب التي لم يأخذها معه بشار الأسد.
ليلة السقوط هذه ستشعل مخيلة كثيرين، خصوصاً أن لا أحد في تاريخ سورية تجرأ على تمثيل الأسد الأب أو الابن ضمن مسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي. السؤال هنا: من سيلعب هذه الأدوار؟ ما هي “الحقيقة” التي سيُستنَد إليها عند كتابة القصة؟ كل هذه الأسئلة تعيد إلى الواجهة ما حصل حين سقط نظام صدام حسين على يد الاحتلال الأميركي، أو ليلة اكتشاف مخبأ أدولف هتلر وإيفا براون منتحرين، وربما فرار بشار الأسد إلى روسيا وتصريح الأخيرة بذلك، يوفران علينا نظريات المؤامرة الكثيرة حول مصيره.
حياكة هذه الحكايات ستزداد تعقيداً وغنىً مع ظهور وثائق جديدة وشهادات جديدة، فضلاً عن سطوة الحكايات المتخيلة والصناعة التلفزيونية السورية، أو ذات الحكايات السورية، كما حصل مع مسلسل “ابتسم أيها الجنرال”؛ إذ قارب المسلسل طبقة حاكمة في بلد عربي، يوحي بأنه سورية، واليوم مع سقوط بشار الأسد وغياب الرقابة الأمنية، سنكون أمام حكايات متعددة، وإعادة بناء حكاية سورية من دون خوف.
الليلة الأخيرة للأسد تكشف في تفاصيلها أنه هرب من دون أن يخبر أحداً، وأنه غادر نحو قاعدة حميميم الروسيّة. تفاصيل واقعية تترك بينها مساحات للتخمين، خصوصاً أن محتويات القصر الجمهوري أصبحت واضحة، من وجبات الطعام حتى ملاحظات أسماء الأسد وجدول مواعيدها. نحن أمام حكاية غنيّة بالتفاصيل التي بانتظار أن تُحاك، وبالطبع ستثير الجدل، لكوننا أمام مولّد للحكايات، ولا حقيقة يمكن حسمها قطعياً إلا إن قرر الأسد الحديث. وهذا لم يفعله حتى؛ إذ لم يتوجّه بأي كلمة إلى الشعب السوري. هناك بيان مُقتضب صدر باسمه، يزعم فيه أنه لم يهرب ولم يكن يخطّط لمغادرة البلاد، إلا أنه اضطر إلى ذلك لأسباب أمنية.
الأساطير التي ستحاك حول الليلة الأخيرة لن تنتهي. بعضها لن يظهر إلا بعد سنوات، خصوصاً أننا أمام أحداث لم تمر في تاريخ سورية أو المنطقة العربيّة، إذ اقتحم السوريون القصر الجمهوري وأخذوا محتوياته، في الوقت نفسه اقتُحم سجن صيدنايا، أو ما سميّ بـ”باستيل دمشق”، الذي لمفارقة تاريخيّة اقتحمه الثوار وأطلقوا سراح من فيه من معتقلين.
نحن أمام أحداث ستغيّر وجه سورية وتاريخها، وقعت كلها بأقل من 48 ساعة، في تشويق هائل وصل إلى حد القول إنه ليلة الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 لم ينم السوريون، فهل سنشهد “سهرةً” أخرى أمام حكاية متخيلةٍ ستبقينا ملتصقين أمام الشاشات؟
“ليلة سقوط الأسد”، أو “الليلة الأخيرة لبشار الأسد” عناوين تكرّرت وستُكرّر في المنتجات الثقافية السورية، في محاولة للإحاطة بهذا الحدث الذي ما زالت نتائجه إلى الآن غير معروفة، وقد تستمر طويلاً مع اكتشاف المقابر الجماعية في سورية تباعاً، إضافةً إلى العديد من التنبؤات ومحاولات تحليل نفسية بشار الأسد، الجهد الذي كتب عنه كثيراً بالعربية والإنكليزية والفرنسية. لكن الآن، أمام السوريين فرصة لفهم الطاغية الذي حكمهم من دون خوف من رقيب أو رجل أمن يرمي بمن تجرأ على أن يتخيل في غياهب قبو أمني لا يعلم متى سيخرج منه.