الجمهور الذي اعتاد لسنوات طويلة منطق القوة الفائضة، لا يزال يعيش حالة إنكار جماعية، يساهم فيها بعض بائعي الوهم من الوجوه الإعلامية لحزب الله، فضلاً عن “فتوّات” السوشيل ميديا الذين لا يزالون يعرضون عضلاتهم الطائفية، محاولين تصوير الهزيمة على أنها انتصار استراتيجي لا يفهمه إلا الراسخون في العلم
يصعب في حالة الصدمة النفسية الجماعية التعامل مع تبعاتها، كما هي الحال مع الصدمات النفسية الفردية. بإمكان معالج نفسي أن يتابع حالة تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة، ويساعدها بالوسائل العلاجية المتاحة، السلوكية والدوائية. وعلم النفس بات قادراً على التعامل بفعالية مع حالات فردية كثيرة.
في حالة الصدمة الجماعية، كما هي الحال مع جمهور “حزب الله”، لا يستطيع علم النفس إلا أن يقرأ في السلوكيات التي تكشف الكثير عن طبيعة المعضلة السايكولوجية الجماعية التي يعاني منها جمهور عريض، تعرّض لهزيمنة نكراء، بعد سنوات من فائض قوة كان الجمهور يصرفه في تعامله مع لبنانيين آخرين.
ومع أن السلوك السياسي لقيادة الحزب، عبر توقيعها على اتفاق وقف إطلاق النار، يشي باستيعاب هذه القيادة مدى الانتكاسة العسكرية والسياسية والاستراتيجية للحزب، الذي خسر في الملعب المحلي والملعب الإقليمي على السواء، إلا أن جمهوره يبدو وكأنه لا يزال عالقاً في مرحلة الإنكار، ورفض الاعتراف بالهزيمة المذلّة. فلم يكد الحزب يستجمع قواه لمحاولة الوقوف بعد لكمات إسرائيلية قاسية، حتى أتت الضربة القاضية من سوريا مع سقوط حليفه الاستراتيجي بشار الأسد. وهذه كلها ضربات على رأس الفيل العالق في الغرفة اللبنانية، أدت إلى وقوعه أرضاً، لكنه لم يحل المشكلة.
الفيل لا يزال عالقاً في الغرفة
الفيل الممدّد بثقله في أرض الغرفة الضيقة، ثقيل الحركة ولكنه حينما يتحرّك بفعل الآلام، يرتطم بجدران الغرفة المتصدعة، ويحدث ضوضاء كبيرة وبلبلة أكبر، ويهدد من حيث يقصد أو لا يقصد، بتحطيم جميع أثاث الغرفة الضيقة ومكوّناتها. ولنا في ما حدث مع راغب علامة وإحراق مدرسته بسبب تصريح، حالة تدرّس.
ومعضلة الفيل هذا، تبدو عصية على الحلّ حتى بموته. لا بل إن موت الفيل يشكّل معضلة أكبر، إذ حتى مع موت تجربة “حزب الله” القاتمة، سيشكل التخلص من “جثته” الضخمة مأزقاً كبيراً لجميع اللبنانيين.
مع أن السقوط المدوّي للحزب، ومعه المحور، بالغ الوضوح، حتى لأعتى صقور الممانعين، إلا أن الجمهور الذي اعتاد لسنوات طويلة منطق القوة الفائضة، لا يزال يعيش حالة إنكار جماعية، يساهم فيها بعض بائعي الوهم من الوجوه الإعلامية لحزب الله، فضلاً عن “فتوّات” السوشيل ميديا الذين لا يزالون يعرضون عضلاتهم الطائفية، محاولين تصوير الهزيمة على أنها انتصار استراتيجي لا يفهمه إلا الراسخون في العلم، متنكّرين لجميع المعطيات العلمية التي تشير إلى أن زمن “حزب الله” إلى أفول، وأن الهزائم على الأرض لا تترك مجالاً لأي نوع من الانتصارات الوهمية “الإلهية”.
وهذا السلوك الجماعي المريب، يثير تساؤلات حول جذوره النفسية، والتي يمكن مقارنتها بالعوارض النفسية لتعاطي مخدر الكبتاغون – فخز صناعة محور الممانعة – والمعروف بقدرته على خلق شعور وهمي بالقوة والثقة بالنفس، رغم الواقع الذي يشير إلى عكس ذلك.
آلية الإنكار مسألة راسخة في علم النفس. عندما يواجه الأفراد أو الجماعات صدمة مؤلمة تهدد صورتهم الذاتية، يلجأون إلى إنكار الواقع كوسيلة لحماية أنفسهم من الألم النفسي. في حالة “حزب الله”، الإنكار الجماعي يبدو وسيلة للتعامل مع الخسائر البشرية والمادية، وكذلك مع تآكل شعبية الحزب في الداخل اللبناني نتيجة السياسات التي أدت إلى عزلة اقتصادية وسياسية خانقة.
وبآلية الإنكار الجماعي هذه، ترفض الحشود التي اعتادت إدمان الوهم، الاعتراف بالهزيمة، تماماً كما يرفض المدمن الاعتراف بأن المخدرات تؤذيه.
وفي مقارنة مع تأثيرات مخدر الكبتاغون، الذي يمنح متعاطيه إحساساً زائفاً بالقوة واليقظة، بينما يتسبب في الواقع بتدمير الجهاز العصبي وتدهور القدرة على اتخاذ قرارات عقلانية، يمكن العثور لدى جمهور “حزب الله” وبعض مسؤوليه وإعلامييه، على عوارض مشابهة. فهذا الجمهور، رغم الهزيمة التي لا يختلف عاقلان على تثبيتها كواقع ملموس، يسوّق لانتصار وهمي، يشبه إحساس المتعاطي بالقوة غير الواقعية، رغم تدهور حالته الفعلية. فوق ذلك، يتجاهل مدمن الكبتاغون الأضرار الجسدية والنفسية التي يسببها المخدر، ومثله يتجاهل “حزب الله” وجمهوره الخسائر المادية والمعنوية التي لحقت بهم، سواء في الأرواح أو البنية التحتية، أو حتى الهزيمة الاستراتيجية على مستوى المحور كله.
على المدى القصير، يمكن فهم حالة الإنكار على وقع الصدمة. لكن الاستمرار في حالة الإنكار على المدى المتوسط والطويل، يعمّق من الأزمة ويؤدي إلى مزيد من العزلة والغربة الداخلية، ويمنع أي محاولة جادة للتقييم الذاتي أو التغيير أو حتى المحاسبة، ولا يحلّ مشكلة الفيل المخدّر العالق في الغرفة.