الاختلاف المشهدي الأبرز بين دمشق ودرعا، هو الدمار العمراني الهائل لبعض أحياء وسط درعا وأسواقه. ففي مقابل نجاة قلب دمشق من عمليات القصف المدفعي والغارات الحربية، لا تزال مساحات كبيرة من السوق الرئيسي في مدينة درعا ومناطق طريق السد والمخيم مدمرة وغير صالحة للسكن وبلا خدمات إطلاقاً،
على الطريق الدولي المتّجه إلى الأردن، وعلى بعد نحو 35 كم جنوب دمشق، تقع بلدة منكت الحطب التابعة لمحافظة درعا. البلدة الصغيرة اشتهرت في السنوات الفائتة بحاجز عسكري أمني ضخم لقوات الأسد كان يفصل ريف درعا الشمالي عن بلدات الجنوب الدمشقي وأحيائه. كان هذا الحاجز أشبه بقطعة عسكرية مصغرة، ما زالت بقاياها شاهدة عليها، إذ يمكن إحصاء نحو عشرين دبابة وعربة مدرعة وناقلة جند مهجورة في المكان بطريقة عشوائية، عدا عن سواتر رملية ممتدة ترتفع لأمتار عدة ومعدات عسكرية وبراميل وفواصل خرسانية وغرف مسبقة الصنع كانت تستخدم لنوم الجنود أو كسجون مؤقتة ومقرات للتحقيق والتعذيب. “هالحاجز كان يفصل بين عالمين”، يقول الشاب الجالس بجانبي في الحافلة الصغيرة، والمنحدر من بلدة اليادودة، ويضيف أن عبوره كان بمثابة “كابوس”.
ولغاية اليوم، تمثّل هذه النقطة العسكرية السابقة فاصلاً بشكل ما بين دمشق ودرعا، أقلّه على المستوى المشهدي، حيث سرعان ما تمتدّ حقول القمح والزيتون على مساحات واسعة في سهل حوران على جانبي الطريق بمجرد التوغّل في محافظة درعا، فيما يخفت حضور علم الثورة السورية في مفارقة لافتة، ذاك أن غالبية السكان هنا انحازت إلى الثورة منذ وقت مبكر وتبنّت لاحقاً رفع هذا العلم، فبدا وكأن الأهالي لم يشعروا بالحاجة الى تسجيل أي موقف أو الإعلان عن وضع جديد بعد سقوط نظام بشار الأسد، بينما أصبح “العلم الأخضر”، كما اعتاد السوريون تسميته، موجوداً في كل مكان تقريباً في العاصمة.
“الدخول” إلى درعا
عندما بلغت الحافلة الصغيرة مدخل درعا، طلب حاجز عسكري بسيط الفصل بين الجنسين داخل الحافلة، بحيث تجلس النساء في الأمام ويرجع الرجال إلى المقاعد الخلفية. وزعم عنصر مسلح أن قراراً من هيئة تحرير الشام صدر بهذا الخصوص، رغم أن أحداً لم يوقف الحافلة ويطلب من ركابها تنفيذ أمر مماثل لدى مغادرتها العاصمة عبر الحاجز العسكري للهيئة.
ولم تنفع الاعتراضات الخافتة من الركاب في تفادي تنفيذ الطلب العبثي، إذ كانت الرحلة على وشك أن تبلغ منتهاها أصلاً. ولم تتردد أم شابة محجبة في التذمر، متسائلة إن كان المستقبل سيحمل أوامر مماثلة أو فرضاً قسرياً لضوابط أكثر تشدداً، كما تساءل رجل ثلاثيني إن كان سفره مع زوجته في المستقبل يعني أن يجلسا في مقعدين متباعدين.
اللافت أن هذا الإجراء لا يتم تطبيقه في العاصمة المتنوعة دينياً، وحيث العيون الإعلامية وشبكات الناشطين قادرة على الرصد أكثر من المناطق الطرفية من البلاد.
دمشق ودرعا: خرائط الخراب
أما الاختلاف المشهدي الأبرز بين المدينتين، فهو الدمار العمراني الهائل لبعض أحياء وسط درعا وأسواقه. ففي مقابل نجاة قلب دمشق من عمليات القصف المدفعي والغارات الحربية، لا تزال مساحات كبيرة من السوق الرئيسي في مدينة درعا ومناطق طريق السد والمخيم مدمرة وغير صالحة للسكن وبلا خدمات إطلاقاً، وهو ما ينطبق كذلك على أجزاء من حي درعا البلد، وبخاصة حي المنشية، بينما تُشاهد آثار الدمار في بعض أحياء حزام العشوائيات المحيط بدمشق والأرياف المجاورة من دون أن يمتد هذا الخراب إلى وسط العاصمة.
مع ذلك، يبدو الوضع المعيشي في درعا أفضل نسبياً من الوضع في دمشق، وقد يُعزى ذلك إلى تماسك اجتماعي أمتن في المحافظة الجنوبية، وصمود قطاعها الزراعي الواسع، والنسبة الهائلة من مغتربيها ومنفييها المقيمين في الخليج والدول الغربية، والذين يواظبون على إرسال الحوالات المالية وغيرها من أشكال الدعم والمساعدة لمن تبقى من أسرهم في الداخل السوري. لكن، لا يعني ذلك بالطبع غياب الفقر والمعاناة أو جودة أعلى للخدمات الأساسية.
وما قد يكون تناقضاً رئيسياً غير مرئي بشكل مباشر بين العاصمة والمحافظة الجنوبية، هو وضع الفصائل والمجموعات العسكرية النشطة في محافظة درعا، إذ لم تنضوِ هذه بعد تحت جناح هيئة تحرير الشام، القوة المسيطرة على القرار في دمشق، وقد تسبب قوة ما يعرف بـ”الفيلق الخامس” الذي يقوده أحمد العودة، وكذلك الامتدادات المحلية لبعض المجموعات، صداعاً للهيئة في حال رغبتها في ابتلاع قوى درعا العسكرية.
وعلى رغم التحسّن الواضح في الوضع الأمني مقارنة بفترة ما قبل سقوط الأسد، حيث كانت منطقة حوران مسرحاً يومياً لعمليات اغتيال وخطف طاولت المئات من أبناء المنطقة، إلا أن المخاوف الأمنية المتعلّقة بالسفر خارج المحافظة والوجود في مناطق نائية واحتمالات الخطف لم تنته بالمطلق.
بين “عمر الفاروق” و”الرسول الأعظم”
وإن كانت دور العبادة التابعة لطائفة الشيعة في دمشق لم تشهد أي أحداث جديرة بالذكر بعد هروب بشار الأسد، فإن المسجد الرئيسي للطائفة في درعا، تم تحويل اسمه في إجراء انتقامي إلى مسجد “عمر الفاروق”، رغم أن الشاهدة الرخامية على مدخل البناء ما زالت تشير إلى الاسم السابق، أي مسجد “الرسول الأعظم”، لافتة إلى أن بناءه تم بدعم من المرجع اللبناني الراحل محمد حسين فضل الله وتوجيهه.
يعرب محام يقطن في الحي نفسه عن اعتقاده أن هذا التغيير الذي طاول المسجد مؤقت وليس أكثر من “ردة فعل متسرعة”، مضيفاً أن سبب ما حدث هو الاعتقاد السائد في المحافظة أن تعمير دار العبادة هذه كان ضمن تمدّد النفوذ الإيراني في المحافظة بإشراف ودعم مباشرين من نظام الأسد وليس ضمن “النمو الطبيعي الديمغرافي للأقلية الشيعية الصغيرة” في المدينة. ويأمل المحامي ختاماً بعودة المسجد لوضعه السابق بمجرد أن “تستقر الأوضاع وتهدأ النفوس”.
عند ساحة الشهداء قبالة قصر المحافظ، والتي شهدت تظاهرات حاشدة بعيد اندلاع الثورة عام 2011، رُفعت لافتة كبيرة تحمل اسماً جديداً “ساحة 18 آذار”. فرغم الإجماع السوري العام على أن درعا هي مهد الثورة، إلا أن انقساماً كبيراً يقابل هذا الإجماع حول تاريخ اندلاعها، فسكان المحافظة الجنوبية يرون أن الثورة بدأت مع أول تظاهرة خرجت في درعا البلد في 18 من آذار/ مارس 2011، والتي كانت البداية لسلسلة تطورات قادت إلى امتداد الاحتجاجات إلى عموم البلاد، بينما يرى سوريون آخرون، وخصوصاً من ناشطي دمشق ومحيطها، أن الثورة بدأت مع تظاهرة صغيرة خرجت في البلدة القديمة لدمشق قبل 3 أيام. وقد يقود تبني بعض المؤسسات الإعلامية الرئيسية تاريخ 15 آذار كمنطلق للثورة وعيد سنوي لها، إلى شعور واسع بالخيبة والخذلان والإجحاف لدى سكان حوران.