![اقترافات التأويل](https://qannaass.com/wp-content/uploads/2023/11/%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%81-%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%81%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A3%D9%88%D9%8A%D9%84.jpg)
عماد الدين موسى في قراءة لكتاب خالد حسين: اقترافات التأويل.. مقاربات في الشِعر والنقد
يكشف الناقد والأكاديمي خالد حسين عن آليات وبنيات القصيدة التي تؤسِّس لصور الشاعر، وبما تحمل من إيحاءات وتوريات، وهو بشكل عام يرسم أكثر من خط فلسفي بين الشعر والثقافة، والأهم أنه يزيح عن القصيدة هالة التقديس، سواء كانت لمحمود درويش أو لنزار قباني أو سليم بركات، حتى لا يحتفظ النص/ القصيدة بمفتاح واحد لتأويله.
في كتابه النقدي الجديد «اقترافات التأويل: مقاربات في الشعر والنقد»،الصادر حديثاً عن دار اوغاريت في دمشق؛ يستل المؤلف سكِّين التأويل، وهو يلاحق المعاني والصور لمجموعة من الشعراء: محمود درويش، نزار قباني، منذر مصري، رائد وحش، جولان حاجي، رشا عمران، شيركو بيكس، محمد عفيف الحسني، علي الجندي، سليم بركات. فيقوِّلهم – ربَّما؛ ما لم يقولوه، فيكشف في استنتاجاته البحثية عن المعاني المختلفة المحسوسة وغير المحسوسة في أشعارهم. مع إنَّ أغلب الأشعار شديدة الوضوح في مقاصدها عند الشعراء موضوع الدراسة، إلاَّ أنَّه يقترح قصداً للخلاف- أي قصداً يدحض التأويل ليكون عتبة لقراءة جديدة. ففي قراءته لديوان محمود درويش “لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي” يعتبر أن العنوان يتسم بالمراوغة والمخاتلة، يخادع القارئ، وأن العلامة التي لا تخون المعنى، ليست بذي علامة. فيقترح تأويلاً باعتبار أن درويش ابتدأ عنوانه بأداة النفي (لا) فيقوِّل الشاعر بأنه يريد أن يقول: لا أريد لهذا السفر/ الحياة/ المواصلة أن تنتهي. على كلٍّ؛ تأويل د. خالد حسين هو تأويل مُقنع ومعتدل وغير مثير للاستياء. لكن الناقد حسين في قراءته لشعر نزار قباني فإنه يأخذ عليه سطوة الصوت، وحضور الأنثى، كونه يتمتع برنين الحضور؛ حضوره الآسر، باستحواذه على المتلقي- أي كما يؤوِّل حسين (غياب الشعر وحضور الشاعر). ثمَّ يدافع الناقد عن نفسه: هذا لا يعني أن قصيدة نزار قباني لا أهمية لها، بقدر ما أن رنين الاسم والجسد والصوت يعصف بحضور القصيدة، ليكون الحضور حضور الشاعر.؛ إلى أن يعتبر الناقد خالد حسين أن القصيدة لا تكتمل إلاَّ بالصوت.
برأيي أن المسألة التأويلية تختلف قراءتها من ناقد إلى ناقد، ومن قارئ إلى قارئ، والمسألة هي ليست مسألة صوت، فالشعر من لغة، ومفرداته بما تحمل من صور، وصور موسيقية ورنَّات ونغمات هي ما يشكِّل عملية جذب القارئ؛ في التأويل- والتأويل المُضاد الذي يقرأ النص- القصيدة قراءة عقائدية أو عاطفية أو عدائية سنكون مع قراءاتٍ مُفتعلة تأخذ مهمة القضاء على النص وكاتبه. إن اللغة التي يكتب بها الشاعر قصيدته؛ كان محمود درويش أو نزار قباني أو علي الجندي أو سليم بركات؛ هي من وحدة معجمية واحدة، ولكن الشاعر أو الناثر هو مَنْ يلعب في مفردات اللغة، ويبتكر منها صوراً ذات دلالات وإيحاءات ونبوءات تثير الجدل بين الكاتب والقارئ- المستمعُ في حالتي درويش والقباني؛ وهذه الصور هي التي تشغلنا، وإن كانت من سلسلة عمليات عقلية. خالد حسين يؤوِّل، ولكنه قليلاً ما يجادل- وإن جادل فرأيه هو اليقين؛ ففي قراءته لشعر منذر مصري يعتبر أن ما يمنح الخطاب الشعري لمنذر مصري، اختلافه وتباينه عن كثير من الخطابات هو قوة التجربة الشعرية على سمطقة اليومي، بمعنى إخراج اليومي من حياديته وانقضائه عبر تشفيره وتفخيخه بالمعنى، ليغدو كائناً شعرياً قابلاً للقراءة والتأويل. مع إنه يبرر لنفسه احتمال الخطأ في التأويل؛ أن يُخطئ فهو في: “اقترافات التأويل” يرى أن ارتكاب الخطأ أصل في عملية القراءة والتأويل، فلا تأويل بمنأى عن الخطيئة، بل إن التأويل على عداوة مريعة مع فعل “البراءة” والحقيقة كما جاء في المقدمة. لكن ما يدفع للتساؤل: كيف سيؤول شعر الشاعر الكردي شيركو بيكس (1940-2013) وهو شاعر كردي، وهو الذي كتب أشعاره باللغة الكردية، وأن قراءته ستكون عن الترجمة إلى العربية باختلاف المترجمين وامتلاكهم للغتين الكردية والعربية، مع إن د. خالد حسين يعير أهمية في نقده إذ يقول: إن الخطاب الشعري موضوع قراءته هو مترجم عن اللغة الكردية، لذا فهو سيقتصر الأمر في دراسته على القبض على الوظيفة السيميائية للمكان، وتحديد مستوياته وأشكاله في الخطاب الشعري المدروس، إذ سيكون (الجبل) الذي يشكل نقطة استناد إستراتيجية في تشكيل النص الشعري لشيركو بيكس. فالجبل حسب حسين في تأويلاته يمارس دور المبدع، حيث يتخذ من المنطقة السهلية مادة للإبداع، وبذلك يكون السهل فضاءً تتجلَّى فيه فعالية المبدع (الجبل شاعر)!.. ثم تجيء (الصحراء) التي ستكون المكان غير المألوف، أو المكان المضاد الذي يتنافر مع المكان الجبل، إذ يتسم بسمات دلالية تشير إلى قيم سيئة في مقابل المكان-الجبل الذي يحوز على قيم حسنة: (الآن روحي صحراء تسقط عليها الأتربة الحمراء) فيؤوِّل خالد حسين أن المكان الصحراء هو رديف الغزو، السلب، النهب والقتل، وأن الصحراوي محبٌ للغزو والتدمير والسلب، بعكس الجبلي الذي ينحصر وجوده في مقاومة الغازي وعمليات تدميره! نلاحظ أن الحسين يكيل بأكثر من مكيال في اقترافه التأويل فهو في قراءته لشعر علي الجندي يتخذ من الإهداء الذي قدَّم فيه أعماله بكلمة (لا) في صفحة بيضاء موضوعاً نقدياً، إذ إن الإهداء في هذه الحالة كما يقول حسين – يوحي بمقصدية متفجرة بالدلالة من وراء هذا الإهداء من جهة، والاقتصاد النصي الذي يشكل إهابه كلمة واحدة (لا …) ويغدو البياض مرتعاً للتأويل، بل موقعاً للصراعات بين الممكنات التأويلية، فجاء الإهداء العام (لا…) نفياً وسخطاً لأي تواصل سابق ومرتقب. وهل يعيننا هذا على قراءة دلالات النقاط الثلاث التي تتالت خلف الإهداء بوصفها علامات على هؤلاء المُهْدى إليه(م)ن، مع الإشارة إلى لا النافية للجنس التي تدل على معنى نفي جميع أفراد الجنس؟
***
اقترافات التأويل.. مقاربات في الشِعر والنقد لِـ خالد حسين، بقلم عماد الدين موسى