طوّر مغني الراب الأميركي ماركوس موتون الملقب بـ”ريدفيل” استراتيجية التعاطف مع فلسطين، ودفعها إلى أبعاد جديدة تصبح فيها إسرائيل ممثّلة ثقافة القمع والعداء للحريات ليس في فلسطين فحسب بل في العالم كله.

ظهر في مشاركته في مهرجان “كامب فلوغ غناو” في لوس أنجليس مرتديا الكوفية الفلسطينية، بينما كانت شاشة عملاقة تعرض أسماء الأطفال الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل في غزة، وصرخ مطالبا جمهوره بالهتاف من أجل حرية فلسطين في عرض نقلته منصتا “تويتش” و”أمازون برايم” وشاهده الملايين، كما لفت إلى أن لا أحد في القائمة المعروضة قد بلغ الرابعة من العمر، قبل أن يحثّ محبّيه على تشكيل قوى ضغط على من يمثلونهم للسعي إلى الوقف الفوري لإطلاق النار.

ما أقدم عليه الرابر الأميركي، أخرج التعامل الثقافي مع الموضوع الفلسطيني من زاوية التعاطف العمومي البارد الذي يفصل الفعل نفسه عن أصحابه، والذي يمكن توظيفه في مجموعة عريضة ومتباينة من القضايا، وأعاد نسبه إلى أصحابه من ناحية، ومنحه من ناحية ثانية صفة النطق باسم قضية الحرية في العالم كله.

لم تعدإسرائيل بما تمثله من سطوة على المؤسسات الثقافية والإعلامية في الولايات المتحدة، طرفا يقود عملية إبادة منظمة ضد الفلسطينيين في الحاضر فحسب، بل صارت الرمز الذي يستحضر كل تراث العنف والتهميش والإقصاء، والذي بني العالم الحديث على تجاوزه ومنع عودته عبر بنى دستورية وقانونية وثقافية محكمة.

 

تحرص السطوة الثقافية التي تتعامل بها المؤسسات الإعلامية الأميركية والأوروبية عموما مع خطاب التعاطف مع فلسطين، على إلحاقه بالمحرم والممنوع والمشين، وتحويل كل المنادين به، بغض النظر عن مراكزهم وصفاتهم وأصولهم، إلى فئة مهمشة تنزع عنها كل الحقوق، أولها وأهمها الحق في التعبير بما هو انتماء إلى العالم الحديث. من هذا القبيل كان ما شهدناه من تخلّي وكالة فنية أميركية عن تمثيل الممثلة سوزان ساراندون، بسبب مواقفها الداعمة لغزة، وأيضا الممثلة مليسا باريرا في الفيلم الهوليوودي “سكريم” التي أبعدت عن الفيلم، بسبب مجرد الدعوة إلى وقف إطلاق النار.

بذلك ينشأ تصنيف لم يعد مجرد فرز ثقافي أو عنصري، بل صار فرزا بين من يستحق الحياة ومن لا بد من إبادته. فمن يحرم من التعبير لا يعود موجودا، تاليا فإن عملية قتله تبدو كأنها لم تحدث، ولا مجال للتعامل مع فعل القتل المتواصل والمقصود من منطق الإدانة والرفض. يصعب فهم آليات التعامل مع الشأن الفلسطيني في الثقافة الغربية والأميركية خارج ما تؤسّس له الهيمنة الإسرائيلية على آليات إنتاج الثقافة ومؤسساتها الأكثر انتشارا وقوة والتي جعلت من تبني روايتها متنا ومن كل عملية احتجاج هامشا.

 

لذا كان لافتا أن خريطة التعاطف مع فلسطين وأسماء المتعاطفين معها من الفنانين الذين وقّعوا عريضة تطالب بالوقف الفوري لإطلاق النار تشمل نجوم الراب مثل دريك، وبعض النجوم ممن اعتادوا على إطلاق مواقف إنسانية وثقافية ترفض السردية الاسرائيلية مثل بن آفليك. ولكن من جهة أخرى، فإن النجوم الأكثر رواجا وطلبا والأكثر ارتباطا بالمؤسسات الإنتاجية، أظهروا تماسكا صلبا في دعم السردية الثقافية الإسرائيلية لا بل والترويج لها.منهم على سبيل المثل لا الحصر جيمس وودز وآيمي شومر.

حرب غزة غيرت طريقة التعامل مع المنتج الإسرائيلي عموما والثقافي خصوصا بعد تراكم فظائع لا يمكن دفنها في قبور التأويلات وتغطيتها بالدعاية والبروباغندا. لا يعني ذلك انفضاض التماسك الإعلامي والثقافي الداعم لمثل تلك التأويلات الهشة والمتهافتة، لكن الجديد يتمثل في أن مطلقيها باتوا يقومون بها استجابة لشبكة مصالح أو خوفا من تهديدات، في حين كانت تمتلك من قبل ثقلا يختلف في طبيعته ومنطق مقاربته.

 

تحوّلت السردية الإسرائيلية إلى اختلاق محض، ومن يتبناها يقبل بالدفاع عنها عن سابق تصميم وإرادة مع العلم بمستوى تهافتها وهشاشتها. يبرز جليا الفرز الحاد الذي أحدثته في المشهد الأميركي بكنايته عن العالمي والكوني، من انقسام حاد بين الذين قدموا من الهامش والذين يحملون تاريخ القمع والعبودية وإهدار الحقوق، كمكوّن ثقافي أصلي وحاسم في نشأتهم، وبين هؤلاء الذين يمثلون مفهوم الطارئ والاستهلاكي.

مغنّو الراب يأتون من خلفية الاحتجاج والرفض. فنوع الموسيقى الذي يقدمونه تطور من موسيقى البلوز الحزينة التي كانت توثق القهر والألم والعذاب الذي كانت تعاني منه مجتمعات السود والأقليات، ولذا فإن كل من يدخل في هذا المجال الموسيقي لا يدخله فارغا بل مشحونا بكل ذلك الثقل المعنوي والتاريخي الذي يعتبر ما يجري في فلسطين حاليا نوعا من البث المباشر والمكثف والمصعّد لكل محمولاته في بعدها الأقصى. يتعاطف مغنّو الراب مع أنفسهم حين يتعاطفون مع فلسطين، وهم يدعون العالم إلى تبنّي موقفهم بوصفه دفاعا عن تماسك العالم الحديث الذي بُني على تجاوز كل موبقات ذلك التاريخ المظلم.

 

مجندون ومثقفون

مع بداية الحرب عمدت الممثلة الإسرائيلية جال غادو التي اشتهرت بأدوار المرأة الخارقة، إلى الدعوة لمشاهدة فيديو مدته 47 دقيقة، هو عبارات عن لقطات جمعها الجيش الإسرائيلي لما يدّعي أنها مجازر ارتكبت في حق المدنيين الإسرائيليين يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. عرض الفيديو في “متحف التسامح” في لوس أنجليس التابع لمركز “سيمون فيزنثال” الذي يعنى بنشر التوعية حول المحرقة في حضور ضباط من الجيش الإسرائيلي ووسط غياب لافت لصاحبة الدعوة.

اللافت في هذا السياق أن الممثلة الإسرائيلية لم تصنع منتجا ثقافيا خاصا بها للرواية الإسرائيلية، بل تبنت ما يصدر عن الجيش، وبذلك انتفت المسافة بين العسكر والمثقف، وصار المثقف مجندا بكل ما للكلمة من معنى، وقد أيّدت المشاهد الواردة من غزة هذا التوجه حيث سقط جنود إسرائيليون اتضح لاحقا أنهم ممثلون و”مثقفون”.

في ظل سيطرة العسكرة على مشهد صناعة الثقافة الإسرائيلية وآليات تعميمها، فإن كل ما يصدر عنها يبدو ملحقا بآليات إنتاج المعلومات والأخبار والوثائق والمواد البصرية والدعائية التي يحدّدها الجيش، التي تتسم بأنها في طبيعتها تنطلق من التمويه والإخفاء وتنتمي في بعدها الرمزي إلى الأقبية والأماكن المغلقة والسرية.

لقد نجحت إسرائيل في فرض هذا النوع من التعامل ليس على المثقفين الإسرائيليين ولكن على كل من يؤيّدها في العالم، إذ يلاحظ غياب ما يمكن أن يطلق عليه المنتج الثقافي المؤيد لإسرائيل، الذي ينطلق من عناوين تخرج على المحدّدات العامة التي يقرّها الجيش الإسرائيلي، بل يكتفي كل من يريد التعبير عن وقوفه إلى جانبها بتكرار ما تنتجه وتقوله الآلة الدعائية العسكرية، وبذلك حولت إسرائيل المثقفين الموالين إلى مجندين بائسين يكتفون باستبطان فحوى دعايتها وتكرارها.

يضاف الى ذلك العمل على إخراج الصوت الثقافي الفلسطيني من المجال العام، وأحدث الأمثلة على هذا النزوع إقدام شبكة  ARD التلفزيونية الألمانية على منع عرض فيلم المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر، “واجب”، الذي كان مبرمجا عرضه منذ أشهر، والسبب المعلن يعود إلى أنه يدافع عن بنى سردية فلسطينية لا تتناسب مع حرب غزة، لكن الشبكة أبقت عرض فيلم winter journey   للمخرج أندرس أوسترغارد وكاتبة السيناريو إيرزسبيت راتس، الذي يصور الرؤية الإسرائيلية مع أنه كان من المقرر عرض الفيلمين في إطار عرض وجهات النظر المختلفة.

طردُ الرواية الفلسطينية يُخرج المسألة من الثقافة أساسا، ويجعلها فعلا حربيا صافيا لأن التعريف البدائي والأولي للثقافة يقدّمها كخطاب يتوجه إلى الآخر ويساجله، تاليا فإن الواحدية التي اختارت تلك المؤسسة الثقافية الألمانية وغيرها من المؤسسات الغرق فيها، تهدّد باستحالة الانتماء الى المجال الثقافي بالتناقض مع أصله وطبيعته.

لعلّ  سحب الثقافة من المجال العام والإصرار على تحويل معالم نفي التعبير الثقافي إلى ثقافة جديدة انبثقت من لحظة الحرب وتعمل على مواكبتها وملاحقتها بالشكل المناسب، هو الإطار التي ترسم فيه إسرائيل حدود التعبير الممكنة والمتاحة، لكنها لا تقدم هذه الرؤية بوصفها سياقا مطروحا من ضمن سياقات عديدة بل تطرحه على أنه الوحيد الذي يسمح تبنيه لأي فاعل ومؤثر البقاء على قيد الحياة الثقافية والاستمرار في عمله.

 

فن الإدانة

تكمن أهمية ما فعله مغنّي الراب الأميركي “ريدفيل” والتعاطف العام الذي أبداه مغنّو هذا النوع من الموسيقى، في قدرته على محاربة هذا النزوع، في الوقت الذي قد تفشل فيه كل آليات المواجهة الأخرى.

ذلك أن تاريخ المواجهة الذي يخزنه في أصله وفي أسباب ظهوره وفي مادته، جعله رفضا شاملا ومطلقا يخترق الحدود. فإذا كانت آلة القمع الإسرائيلية قد فرضت على الثقافة حجابا يحول دون خروجها إلى الميدان العام إلا بوصفها انعكاسا للمجزرة وتبريرا لها، فإن موسيقى الراب تستطيع أن تقول خطابا مضادا انطلاقا من التسفيه التام لكل الآليات المنتجة للسلطات ومن ضمنها آليات إنتاج الثقافة.

فموسيقى الراب قرينة الساحات والظهور والمشاعر العلنية والانفعالات الخارجة عن السيطرة، لذا يتجلى الدفاع عن الحق الفلسطيني الذي تتنبّاه طازجا حيويا، لأنه راديكالي وحاسم في إدانته، ولأنه لا يلجأ إلى خطاب الاستعطاف اليائس الذي طالما وسم مقاربات المجازر الإسرائيلية، من قبل المثقفين، بل يضع الإدانة في قلب الحدث ضمن إطار مواجهة متحدّية وواثقة ومفتوحة.

قال ريدفيل أمام الجماهير المحتشدة والشاشات الناقلة للاحتفال، إن كل الأطفال المقتولين الذين تظهر أسماؤهم على الشاشة لم يبلغوا الرابعة، وفتح بذلك باب الإدانة المطلقة والمباشرة والمتجدّدة التي تواجه منع التعبير عن الرواية الفلسطينية وقمع صوتها بتعبير راديكالي مضاد وغير قابل للنقاش، يعلن أن من استهدفوا يمثلون البراءة المطلقة التي لم يلمسها شر العالم.تاليا، فإن التعامل مع قتلهم لم يعد خاضعا للاعتبارات السجالية وتعارض السرديات وتناقضها التي تحيل الموقف على مجرد عنوان تائه ضمن شبكة من العناوين، بل صار معنى يعلن بوضوح أن من يفعل ذلك إنما يستهدف الحياة نفسها. فلا يعود الدفاع عن حرية فلسطين ضمن هذا المنطق خطابا سياسيا، بل يتجاوز السياسة والأطر الثقافية السائدة، ليصبح دفاعا عن الحق في الوجود، وهو الحق العالمي والمطلق الذي تقصفه إسرائيل وتستهدفه كل لحظة.

وقف إطلاق النار الذي يدعو إليه ريدفيل وعدد كبير من  الممثلين والمثقفين الأميركيين والذي انفجر على خلفية حرب غزة وحسب، ينطوي في بعده الأعمق على مطالبة بالكف عن شرعنة إطلاق النار على العالم الحديث، الذي بات مع استمرار تغطية ارتكابات آلة القتل الإسرائيلية بعناوين ثقافية هشة، مثخنا بالجراح وآيلا الى الموت والتلاشي.