تتساوى مشاعر صدمة محاولات منع الاحتلال الإسرائيلي، أسر الأسرى الفلسطينيين من الاحتفال بتحرير أبنائهم من سجونها، مع مشاعر اللاصدمة. فخطوات كهذه تنسجم أولا وقبل كلّ شيء مع صدمة قيام الاحتلال، في المقام الأول، باعتقال هؤلاء الأطفال والنساء، ثم تنسجم مع صدمة المعاملة اللا إنسانية التي فرضتها عليهم، لاسيما خلال الفترات الأخيرة منذ بدء العدوان على غزة. وقد شاهد العالم وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي إيتمار بن غفير وهو يقيم طقسا احتفاليا قبل أيام مع عناصر الشرطة داخل سجون الاحتلال، بتلك المعاملة، التي أراد أن يراها تترجم بصريّا، وأن يراها هو ومعه العالم متجسّدة في المعاملة الجسدية القاهرة لهم، لا النفسية فحسب.

كون هذا حدث ويحدث، بصورة يومية واعتيادية، وكون عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال تجاوز ثمانية آلاف فلسطيني، وكون العالم بدوله ومنظماته الأممية والحقوقية لم يفعل شيئا إزاء هذه الانتهاكات الخطيرة لسنوات وسنوات، وكون الشرطي أو الجندي الإسرائيلي يتمتع بالقدرة على اعتقال أيّ فلسطيني في أية لحظة وبأية ذريعة وفي أيّ مكان، وكون إجراءات السجون الإسرائيلية وقوانينها تتمادى في انتهاك الحقوق والكرامات… كلّ هذا حوّل الصدمة الواجبة والتي يفترض أن تقلق أيّ ضمير إنساني عادي، بصرف النظر عن تعاطفه مع القضية الفلسطينية من عدمه، إلى لا صدمة. فقد نجح الاحتلال في مأسسة ومنهجة انتهاكاته لحقوق الإنسان الفلسطيني والتنكيل به، على مرّ عقود وعقود، إلى درجة لم يعد يطرح فيها السؤال ولا يُستدعى التأمّل، ناهيك عن الاحتجاج، حول معنى ما يقوم به.

أن يقتحم رجال الشرطة بيوت أسر الأسرى المحرّرين، ولاسيما النساء منهم، ويشترط عليهم عدم الاحتفال، ويصادر أيّ مظاهر لذلك الاحتفال المحتمل، بما في ذلك منع أصدقاء الأسير ومحبيه من استقباله، ومصادرة الزهور والحلوى، فإن ذلك مما لا يخطر في بال أعتى الكتاب الديستوبيين شراسة وإسرافا في الخيال. وما يفترض أن يدفع أيّ إنسان طبيعي إلى الاشمئزاز، ويدفعه ربما إلى كره حياة البشر على هذا الكوكب برمته، هو أمر عادي كشروق الشمس وغروبها أو كتناول فطور الصباح أو كلقاء عاشقين على مقعد في حديقة.

مثل هذه التصرفات/ السياسات، ليست وليدة غيظ أو رغبة في الانتقام فحسب. لكنها تشير إلى الأسباب العميقة التي دعت في الأصل إلى اعتقال هؤلاء المدنيين الفلسطينيين، وهي نفسها التي دعت إلى قتل كل تلك الأعداد الهائلة من المدنيين في غزّة، دون أن يرفّ للمؤسسة السياسية أو العسكرية الإسرائيلية، جفن. فجميع الفلسطينيين، بحسب هذه الرؤية إرهابيون، لا فرق كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي بين من يحمل السلاح أو من يلفظ الكلمة أو يشتغل بالسياسة. هناك قانون يخصّ إسرائيل وحدها في هذا المجال. وهذا القانون مائع وفضفاض إلى درجة أن يطاول كلّ فلسطيني، ليس في فلسطين فحسب، بل في العالم أجمع، وأن يطاول معهم كلّ محتجّ على سياساتها، مهما بلغت احتجاجاته من “تهذيب” و”مجاملة”، ولهذا انتفضت الخارجية الإسرائيلية بالأمس ضدّ وزيري خارجيتي إسبانيا وبلجيكا، واستدعت من استدعته من سفراء دول في مناسبات سابقة، طالبت بابا روما بالتوضيحات، لأنه لا يحقّ لأحد أن يقول كلمة خارج سياق الخطاب الإسرائيلي.

 

 

الفرح ممنوع على الفلسطينيين، ليس فقط لأن إسرائيل لا تريد أن يعبّر الفلسطينيون عن أيّ مظهر يوحي بـ “الانتصار”، ولو الرمزي، بل لأنها تعتبر جوهريا أنه لا يحقّ لهم بهذا الفرح. الضحايا هم الإسرائيليون فحسب، والرهائن هم الإسرائيليون فحسب، وبالتالي الانتصار والفرح، يجب أن يكونا إسرائيليين فحسب. وما تريده إسرائيل في أيّ حال، لا يقف عند حدود حظر البهجة ومظاهرها، بقدر ما يرتبط ارتباطا وثيقا بالرواية، تلك التي تفضحها التفاصيل ولا تحجبها العموميات والاتهامات المطلقة، كما حصل في غزة، فالممنوع حقا هو أن يحكي الفلسطيني، أن يروي تلك التفاصيل، أن يكشف جوانب من القصة يريدها الاحتلال أن تبقى مكتومة، وبعيدة عن عدسات الكاميرات.

الفلسطيني، بالنسبة إلى إسرائيل، غير موجود، إلا كعبء ومشكلة. ليس هناك زهاء 60 ألف ضحية (15 ألف قتيل معلن، وسبعة آلاف تحت الأنقاض، ونحو 35 ألف جريح، وآلاف المعتقلين) سقطوا في عدوانها الغير مسبوق على أهل غزة، فأولئك الناس غير موجودين في المقام الأول، الموجود فقط هو المشكلة، وكلّ ما تقوم به الطائرات والدبابات الإسرائيلية هو التخلص من تلك المشكلة، أو إخفاؤها ومحوها. بقدر ما أن فلسطين غير موجودة في القواميس الإسرائيلية كافة، فإن الفلسطيني تبعا لذلك، لا يجب أن يكون موجودا، وبقدر ما أنه غير موجود بقهره، ومأساته، وموته، ودمه، ونزوحه، فإنه قطعا لا يجب أن يكون موجودا ببهجته وفرحه واحتفاله، ولو بحريّة مؤقتة.