فرَّ بشار الأسد في 8 كانون الأول 2024، وتحققت بذلك نبوءة أطفال درعا، الذين كتبوا على جدران مدرستهم عام 2011: (جاك الدور يا دكتور). إلا أن تلك النبوءة لم تتحقق إلا بعد ترحيل 40% من سكان سوريا، وإزهاق أرواح مئات الآلاف في الأقبية الأمنية تحت التعذيب، بوسائل تقشعر لها الأبدان (المسلخ البشري في سجن صيدنايا أنموذجاً)، ناهيك عن ضحايا البراميل المتفجرة من لدن ربيب القياصرة بوتين، والأسلحة المحرمة دولياً من قبل النظام، وبطش حلفاء النظام وفي مقدمتهم حزب الله وملالي إيران وكل شذاذ الآفاق.
برحيل الهبل الأكبر تحت جنح الظلام تهاوى نظامه التاتوليتاري بسلاسة أذهلت المراقبين، جرّاء خطة تم اعدادها على ما يبدو بتنسيق وتفاهم دوليين أولاً، وعمت مظاهر الغبطة جميع أرجاء سوريا، وانهار ما كان يُسمّى بحلف “المقاومة” زوراً، وفقدان بشار لحاضنته التي ورثها عن والده المقبور، تلك التي شُيّدت بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى ثانياً، كما أصيب الجيش الذي أعدّ لحماية كرسي الطاغية بانهيار معنوي، وكيف لا يصيبه الشلل وراتب الجندي دولارات عدة، في الوقت الذي كان الطاغية وبطانته يعيشون في النعيم ثالثاً. بيد أن ما جرى كان من غير الممكن أن يجري لولا استبسال عموم المكوّنات السورية طيلة عقود، بعد أن سئمت ديماغوجية الأسدين المنتهجة في احتكار السلطة وتدمير البلاد وإذلال العباد ونشر ثقافة الكراهية، وإثارة الضغائن بين سائر الأطياف من خلال عدم قبول «الآخر» وتهميشه وإقصائه، وممارسة التضليل والتمييز العنصري، وتميزت حقبتهما بالكثير من التغول والغطرسة، لتنتج في النهاية مجتمعاً منخوراً، وتضعف الشعور بالمواطنة الحقيقية لدى أغلب المكونات، وتحديداً المكون الكردي، الذي أصابه الكثير من الهوان والغبن طيلة “عهد الأسدين” تحديداً.
لكنْ، مازال الحكم على القوى التي تتصدّر المشهد، وتتربع في قمة هرم السلطة، سابقاً لأوانه. إنما ينبغي أن نُدرك جميعاً بأن تجاهل التنوع القومي والديني تحت يافطة «حق المواطنة» بهدف تشييد مجتمع متجانس، وتجاهل التنوع القائم منذ إلحاق جزء من كوردستان بالكيان السوري الناشئ عقب سايكس – بيكو، سيعيد سوريا إلى المربع الأول.
ومن الضرورة بمكان القول، إن حماية هوية مكونات سوريا باتت هدفاً لا مناص منه، وفق العهود والمواثيق الدولية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بغية استقرار البلد، فلا يجوز طمسها بأي شكل من الأشكال تحت ذريعة أنموذج الدولة القائمة على «هوية الأغلبية».
إن التمتع بالحقوق القومية والدينية لكافة المكونات باتت اليوم تستدعي الحماية، شرط أن ينص الدستور القادم على الاعتراف بها، وصونها.
في الختام، لا أخفي سراً للقارئ الكريم مقدار السعادة التي غمرتني بزوال هذا الكابوس الذي قضّ مضاجعنا من جهة، والقلق الذي ينتابني والأرق الذي يراودني إزاء الواقع المتشرذم للحركة السياسية الكردية، هذا الوضع لا يبعث على الطمأنينة حقيقة. وما زاد من قلقي تجارب الربيع العربي التي أجهضت، وافتراس تركيا الجغرافيا السورية، حيث راحت فصائلها بدورها في استباحتها ونهشها وقضمها من حين لآخر، وهذا مؤشر مخيف وفق كل المعايير، مما يوحي لكل متأمل بخيبة الأمل، بيد أننا، وعلى حد وصف سعدالله ونوس، سنظل “محكومين بالأمل”…!