تعرّضت حكومة تصريف الأعمال في سوريا لأول موقف هزّ صورة السيطرة التي حرصت على الإيحاء بها منذ فرار الرئيس السوري بشار الأسد في 8 كانون الأول (ديسمبر)، وذلك عندما رفضت المرجعية الروحية في محافظة السويداء ومن ورائها الفصائل المحلية المسلحة، دخول رتل عسكري تابع للإدارة الجديدة إلى مدينة السويداء، فعاد أدراجه إلى دمشق تاركاً صورة مشوّشة عن مصير المحافظة الجنوبية التي طالما تمتعت بخصوصية ميّزتها عن سائر المحافظات السورية الأخرى
وقد عُزي رفض دخول الرتل، إلى عدم وجود تنسيق مسبق بين الإدارة الجديدة ووجهاء المحافظة، لا سيما المرجعية الدينية ممثلة بالشيخ حكمت الهجري شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الذين يشكلون الغالبية العظمى من مواطني المحافظة.
غير أن الإعلام التابع لـ”هيئة تحرير الشام” حاول تسويق رواية مغايرة لما حدث، مشيراً إلى أن الرتل التابع لجهاز الأمن العام إنما قدم إلى السويداء بعد اتفاق بين ممثلي المحافظة وإدارة العمليات العسكرية. ولكن قام بعض الأشخاص التابعين سابقاً لـ”كفاح الملحم” (رئيس شعبة الأمن العسكري) وهم عبارة عن مجموعات أمنية سابقة بإيقاف الرتل ومنعه من الدخول.
وأضاف أنه تم التواصّل مع قائد تجمع “أحرار الجبل” الشيخ سليمان عبد الباقي الذي اعتذر عن الإشكال الحاصل. وبدوره تفهّم الرتل ضرورة عدم حصول أي إشكال داخل المحافظة فعاد ريثما يتم تنسيق الدخول بشكل أفضل.
وما يثير الانتباه في رواية “تحرير الشام” أنها حمّلت مجموعات أمنية تتبع لشعبة الأمن العسكري المسؤولية عن عرقلة طريق الرتل. وأثار ذلك شكوكاً في الهدف من الزج باسم اللواء كفاح ملحم في هذه القضية، وما إن كان المقصود هو بناء ذرائع تمهّد الأرضية لملاحقة فلول النظام والشبيحة كما يحدث في مناطق العلويين في اللاذقية وطرطوس وحمص وحماة.
غير أن الأمر أبعد من مجرد هذا الهاجس الأمني، لأنه يرتبط بقضايا أشد تعقيداً مثل شكل الدولة العتيدة وطبيعة نظام حكمها ومبادئ دستورها، والأهم هو طبيعة العلاقة بين محافظة السويداء والمركز.
وبذلك تنضم السويداء إلى منطقة نهر الفرات التي تحكمها الإدارة الذاتية التابعة لـ”قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) وتشمل مدناً ومحافظات في دير الزور والرقة والحسكة، إذ إن مصير هذه المنطقة ما زال مجهولاً بسبب خضوعه لتجاذبات إقليمية ودولية. ويبدو أن حسمه يحتاج إلى ما هو أكثر من حوار مباشر بين الإدارة الجديدة وقيادة “قسد” (جرى الحديث عن عقد جولة أولى)، لأنه مرتبط بمصالح دول مختلفة وأجنداتها مثل الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل. والأخيرة بدأت تركز في خطابها على قضيّة حماية الأقليات في سوريا كما فعل وزير خارجيتها في اتصاله بنظيره اليوناني قبل أيام، وذلك في مؤشر إلى وجود رغبة لديها في عدم ترك تركيا تستأثر برسم المشهد السوري الجديد وحدها.
ولا تخفي الرئاسة الروحية في السويداء، ولا قادة الفصائل المسلحة المحلية، مطالبتها بضرورة بناء الدولة السورية الجديدة على أساس لامركزي، بحيث تتمتع فيه بعض المناطق بحكم محلي ذي صلاحيات واسعة. ويتلاقى هذا الهدف مع رؤية “قسد” لمناطق سيطرتها وطبيعة علاقتها بالمركز.
وأعلن الشيخ الهجري أكثر من مرة رفضه تسليم سلاح الفصائل المحلية في السويداء إلى الإدارة الجديدة، معتبراً أن من المبكر الحديث عن هذه الخطوة. وذكر أن تسليم السلاح أمر مرفوض نهائياً إلى حين تشكيل الدولة وكتابة الدستور “لضمان حقوقنا”. ولم يخف هواجسه إزاء الوضع القائم، وطالب بمراقبة دولية تضمن عدم وجود ثغرات في عملية بناء الدولة الجديدة.
ويؤكد رفض تسليم السلاح ومن بعده رفض استقبال رتل الهيئة الذي كان يخطط لدخول مقارّ أمنية سابقة والتمركز فيها لإدارة الوضع الأمني في السويداء، أن عملية بناء الثقة بين وجهاء السويداء والإدارة الجديدة قد تحتاج إلى وقت أطول مما هو متوقع، وبالتالي سيشكل هذا الواقع معضلة أمام الإدارة الجديدة التي قالت إنها تستعد لعقد مؤتمر وطني، فهل تُستثنى السويداء من المؤتمر أم يُدعى ممثلون عنها رغم رفضهم تسليم السلاح والاعتراف بالسلطة الجديدة؟ وهو ما قد يجر عليها (الإدارة) الكثير من الانتقادات باتباع معايير مزدوجة في التعامل مع المناطق بسبب انتماء أبنائها الديني.
وفي ظل هذا الاستعصاء من السويداء، والغموض الذي يحيط بمصير منطقة شرق الفرات في ظل رغبة تركية في حسمه عسكرياً، وهو ما يقاومه أحمد الشرع حتى الآن خشيةً من رد فعل أميركي، يبدو أن شكل الدولة في سوريا وطبيعة دستورها ونظام الحكم فيها ستظل متوقفة على التوازنات الدولية والإقليمية الجديدة التي تنتظر قدوم دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ليبلور رؤيته حولها والتفاوض مع الدول المعنية حولها.