قصة

من دفتر الأيام النازفة

عُلا شيب الدين *

تحوي صفحات الدفتر، نصوصاً لأيام مكتوبة بخطّ يد، بعضها امّحى نهائياً بفعل استحالة الكلمات جثثاً مشوّهة لا يمكن التعرّف إليها، وسط هيولى الحبر الذي لم يعد له شكل أو معنى. البعض الآخر لا تزال قراءته ممكنة، وإن يكن ذلك بمشقّة وصعوبة بالغة. في الدفتر، نصوص من سيَر ذاتية لكثيرين وكثيرات، بعضها لكاتبة اسمها الفلسفيّ “ديوتيما السوريّة”، تلك التي تفضّل – بمحض الإرادة- في ما يخصّ شأنها الشخصيّ، إنجاب ذريّة روحيّة (أفكار)، على إنجاب الأطفال البؤساء. “الرجل ذو الوجوه الستة”، كان واحداً من نصوصها، جاء فيه: “في يوم الكذب الاستثنائيّ، الذي اعتاد خلاله سكان “مدينة الركوع الجبريّ والطوعيّ” الإفصاحَ عن كذبهم الكاذب، على عكس الأيام العادية التي يكذبون فيها حقيقة وصدقاً، من دون أن يعترفوا أو يرفّ لهم جفن؛ حضرتْ ديوتيما إلى مبنى “يعمل” فيه حاكم المدينة العسكريّ، تلبيةً لاستدعائه لها باعتبارها كاتبة ثائرة، وثائرة كاتبة.

بدا المخطط السيكولوجيّ للبناء واللقاء، بالنسبة إليها، على الشكل الآتي: خطٌّ بيانيّ يرتفع تدريجياً، آخذاً شكل قوس منحنية في الأعلى، قبل أن تنحدر من الجهة الأخرى تدريجياً أيضاً، وثمة عنصر لكل مرحلة يتولى فيها مهمة واحدة محددة. في بداية الخط البيانيّ ونهايته، كان لديوتيما لقاء سريع مع عنصرين مطلوب منهما تولّي مهمتين “ليّنتين” مدروستين. الأول، كانت مهمته الاستفسار بشكل عام عن مقالات ثائرة وحرة، ثابرت ديوتيما على كتابتها منذ اندلاع ثورة الحرية. الثاني، كانت مهمته الاستفسار بشكل عام عن تفاصيل شخصية. في أعلى الخط البيانيّ، كان لها لقاء مطوّل، مشطور نصفين، أحدهما متوسط “اللين”، والآخر عنفه معنويّ مُحكَم الضبط وممسوك، وفق ما تقتضيه المصلحة البراغماتية، المناطقية، الطائفية، الإعلامية والدولية. صباحاً، وقت الدخول من الباب الرئيسيّ، جاء العنصر ذاته المطلوب منه تولّي مهمّة “ليّنة” وسريعة في بداية الخط البيانيّ، “مستقبِلاً”، ومساءً، عند الخروج من الباب نفسه، في اليوم نفسه، كان العنصر ذاته المطلوب منه تولّي مهمّة “ليّنة” وسريعة في نهاية الخط البيانيّ، “مودِّعاً”.
بداية الخط البياني المتصاعد، تكون بمثابة لحظة لا تزال دنيوية حيوية ممهورة بالطاقة والعنفوان، بالنسبة إلى مُستدعَى من مثل ديوتيما، على النقيض من النهاية التي ينتهي إليها الخط البيانيّ نفسه، حيث تبدو هذه الأخيرة، كأنها لحظة أُخروية عدَمية مطعونة ومهزومة. يصعد شخص من مثل ديوتيما، من بداية الخط البياني، إلى القوس المنحنية في أعلاها، حراً، في مقدوره أن يجيب على سبيل المثل، بـ”لا تعليق” عن سؤال ما يُطرَح، انطلاقاً من إيمانه في أنه حرّ في أن يتكلّم أو يجيب، وحرّ في ألاّ يفعل، فهو أصلاً مدنيّ لا ينبغي استدعاؤه إلى مكان عسكريّ. لكنه يهبط من الجهة الأخرى للخط البيانيّ، إلى “العالم السفليّ” (السجن)، لـ”يعود” منه الشخص الذي لم يعد حراً الآن، إلى الحاكم نفسه في أعلى الخط البيانيّ، بعد أن يكون قد أُوحيَ إليه ما الذي يمكن أن يحصل إذا لم يُجب عن أي سؤال يسأله الحاكم ولم ينصع. قلبُ ديوتيما الجسور الذي كان أمام الحاكم، قبل أن تهبط إلى “العالم السفليّ”، صار هشاً في ذاك “العالَم” الذي يُجرَّد فيه الكائن البشريّ من كل إرادة.

في أعلى الخط البيانيّ، قبل أن تلجَ ديوتيما “العالم العلويّ” الفخم (مكتب الحاكم)، كان قد أُوحيَ إليها، بأن الحاكم لديه أشغال وضيوف، لذا ينبغي لها الانتظار الصبور، حتى أنّ ثمة مسرحيات عديدة مُثِّلت أمامها، كشفتْ اصطناعها، انطلاقاً من كونها امرأة مفطورة على الحدس. مسرحيات كانت ترمي أيضاً إلى إثارة إعجابها بما يجري عموماً في هذا المكان، من مثل: مجيء شخص يعرِّف بنفسه أمامها كمسؤول كبير متقاعد، وبعد انتظار طويل، يغادر المكان من دون أن يرى الحاكم، على اعتبار أن الأخير منشغل، وعلى الرغم من كون المسؤول هذا، تربطه بالحاكم علاقة شخصية كما قال على مسامعها أيضاً. هنا أيضاً، قبل أن تلجَ “العالم العلويّ” الفخم، قيل لها في معرض الإجابة عن استفسارها حول أسباب عدم قصفِ الإرهابيين الظلاميين التكفيريين: “خلّيهن يقتلو ببعض”، أي قوى الثورة وهؤلاء. وقيل لها في معرض الإجابة عن استفسارها حول أسباب وجود ميليشيات غريبة في البلد، يُفترض أن تكون وجهتها العدوّ الإسرائيليّ: “هنّي عندن مشروعن الخاص هون”. وقيل لها في معرض الردّ على دعوتها لهم بأن يحترموا المثقفين والسلميين: “إن حمْل الفكر أخطر من حمْل السلاح، وإن “التسميم” بالأفكار أمضى”. قيل الكثير غير ذلك، مما يصعب هنا الخوض فيه والتفصيل. الأدوار المختلفة، التي طالما اضطلع بها عناصر عديدون، على هيئة مراحل تقترب رويداً رويداً من “عالم” الحاكم رئيس المكان، كانت جزئيات اجتمعت كلّها في نهاية المطاف في شخصه. فبالكليّة هذه، يصير الحاكم سيداً مطلقاً على مرؤوسيه. خلصَتْ ديوتيما إلى الاستنتاج هذا، بعدما ولجتْ أخيراً “العالم العلويّ” الفخم، وخاضت تجربة، نقّلها فيها الحاكم، بمهارة ساحر، بين وجوهٍ ستة، يرتدي ملامحها ويخلعها واحداً في إثر واحد، بخفّة، وبآلية المعتاد. كان الوجه المزدري، هو الوجه الأول الذي استقبلها فيه. أمرَها بتعالٍ بأن تقف أمامه، هو الجالس خلف طاولة مكتبه، بعدما تَرجم الفلسفة إلى “فزلكة”. بدا لها مصطنِعاً الانهماك في الشغل وفي تقليب أوراق على الطاولة المستطيلة الكبيرة أمامه. بدا لها أيضاً أنّ فنجانَيّ القهوة على طاولة صغيرة أمام طاولة مكتبه وأمامها، وُضِعا بعناية تقصد مواصلة الإيحاء بأن ثمة ضيوفاً كانوا هنا. وبدا لها أن قدوم أحد العناصر مسرعاً وهمْسه في أذن الحاكم، كان مجرّد مقدمة لإرباكها وتشويشها. بعد لحظات، رفع الحاكم نظره عن الورق، ليثبّته على القسم السفليّ من جسدها. حدّق وحدّق. انتبهت ديوتيما إلى أن التحديق المدروس هذا، في انتهاكه حرمة جسد، لم يكن مجّانياً، بل أراد ربما أن يبعث برسائل مفادها: أنتِ مجرّد كائن مختزَل في القسم السفلي هذا. رأسكِ، عقلكِ، فكركِ، وجهكِ – عدا الشفتين فيه، باعتبارهما امتداداً طبيعياً للقسم السفلي، لا حاضنتَي كلام-، ذلك كله لا معنى له ولا مغزى. أمام الانتهاك الذكوريّ الصارخ هذا، لم ترتجف الساقان الملتصقتان الواقفتان، ظلّتا بكامل كبريائهما. بعد “نقاش” لم يتجاوز خمس دقائق، سألها هو فيه عن “القانون”، وعمّا إذا كانت مواطِنة عربية سورية حقّاً، ودَعته هي إلى الكفّ عن “التخوين”؛ قرعَ الحاكم جرساً، فدخل “عالَمه” عنصرٌ. أمرَه بأن يُنزلها إلى “العالم السفليّ”. في هذه اللحظة، نظرت ديوتيما في عينَي الحاكم نظرة متوقدة متوعِّدة؛ خلعَ الحاكم على إثرها الوجه الأول، ليرتدي وجهاً متوسِّلاً. قرأت في الوجه المتوسل هذا، هلعاً في شأن كيفية التعاطي مع امرأة كهذه في مدينة كهذه، ورجاءً بألاّ تعارض ما سيطلبه منها، بعدما تعود إلى “عالمه” من “عالم سفليّ” تدخله هو و”العالم العلْويّ” للمرة الأولى في حياتها.

بعد العودة من “العالم السفليّ”، إلى “عالمه”، استقبلَها الحاكم بوجه ثالث أصفر مبتزّ. شاء للوجه هذا التلصص على حياتها الشخصية كامرأة، قبل أن يستشيط في وجهٍ رابع غاضب يقابل به أي محاولة منها للدفاع عن نفسها، أو التكلم في أي شيء. ربما كان ارتداء هذا الأخير، تمهيداً لارتداء وجه خامس هادئ مفاوِض، قُدِّمتْ إليها من خلاله عروضٌ من مثل “وظيفة حكومية”، كما دُعيت بشكل غير مباشر إلى قراءة ما يكتبه الحاكم في هذه المجلة وتلك، بعدما عمدَ إلى تعريفها لفظياً إلى شهادات عالية حاصل عليها، وغير ذلك مما اقتضاه الظهور أمام امرأة جميلة حرة تفكر، بمظهر اللمّاح، البارع في دحر الخصوم الفكريين بالفكر. ولكي يستحثّها ضد إرادتها، ويوجّهها صوب توقيع تصريح خطّي، تقول فيه إنها كانت مضلَّلة وإنها لن تعود إلى كتابات “تسيء” إلى “رموز الوطن”؛ عاودَ ارتداء وجه الابتزاز ملتفِتاً إلى الأخ، عازماً على تحميله مسؤولية مقالاتها، إذا رفضتْ توقيع تصريح. لم تُعر ديوتيما أدنى اهتمام لعرض الوظيفة الحكومية، لكنها انصاعت إلى أمر توقيع التصريح. لم يكن أمامها سوى أن تنصاع، وبأقل الخسائر.

أمرَ الحاكم العنصر بأن تسجّل ديوتيما عناوين مقالات محددة، كانوا قد احتفظوا بنسخٍ ورقيّة منها. بعد انتهائها من كتابة التصريح وتوقيعه، ساوَرَها سؤالٌ صامت: لماذا استُثنيَتْ مقالات أخرى كتبتْها ولم تُدرَج في التصريح مع هذه؟ (سؤال فكّرتْ فيه مليّاً في ما بعد، ولاحظتْ أن جُلّ المقالات المستثناة، كانت قد ذكرتْ فيها اسم منظمة دولية مثلاً، أو جهة ما خارجية، وخلصتْ من خلال ذلك إلى أنه ربما يرجع ذلك إلى حرص هؤلاء على عدم إزعاج المجتمع الدولي والحلفاء العلنيين والمخفيين في أي تفصيل مهما يكن هامشياً، أما في ما يخص المقالات التي وقّعت عليها، فقد خلت كلّها من أي ذكرٍ أو إشارة لأي منظمة دولية، ما يعني أن الداخل لا يعني هؤلاء، بقدر ما يحسبون ألف حساب وحساب للخارج).
بدا لها الحاكم في الوجه السادس المودِّع، منتشياً بنصر سياسيّ أحرزه للتوّ، ظافراً كمَن يمعن في غزْل خيوط المصائر. قال لها: “إختْنا”، إن عُدتِ للكتابة سنجلبكِ حينها بطريقة غير ودّية. بينما كانت ديوتيما تنصت إلى كلمة “إختنا”؛ حضر مباشرة إلى ذهنها مشهد التحديق، قبل قليل، في القسم السفلي من جسدها، قالت في سرّها: عجيب!


عرفتْ ديوتيما حين خرجتْ، أنها قد دخلتْ الآن مرحلة جديدة، سوف يجري فيها التحريض الممنهج ضدها، والتشويه الممنهج لصورتها أمام الناس. عرفتْ أكثر، مصدر اللوثة. مصدر هذا الكمّ الهائل من الوجوه المستنسَخة، حيث نظرة الحقد نفسها، الابتسامة السخيفة نفسها، خطوط اللؤم نفسها، اللون الممسوخ نفسه، الرتابة نفسها، التركيب نفسه، الاستجابة حيال المواقف وكل شيء نفسها. خرجتْ فاقدة الثقة في كل شيء تقريباً، خصوصاً بعدما أدركت كم كانت مخدوعة في أشخاص، وكم كانت بريئة وطيبة حين كانت ولا تزال، تظن أن حياتها الشخصية وحريتها الشخصية، ملكها وحدها، وأن أحداً في هذا العالم لا يحقّ له التدخّل فيهما. خرجتْ فاقدة الثقة في كل شيء تقريباً، في ما عدا عاشقَيْن يافعَيْن مستقبليَّيْن قادمَين (في يوم ما من عام 4015 م مثلاً)، تسابق أقدامهما الريح، يستقلاّن أوّل مركبة فضائية، ويشدّان الرحيل صعوداً إلى السماء، لغرض استكشاف شيء ما عن آثار أسلافٍ ثائرين، تهيم أرواحهم في نجوم ونجمات مضيئة خالدة، محتسين شفقاً قانياً ساعة المغيب، ضاربين كؤوس الغيم، وبأيادٍ لها خاصيّة النسيم، ممدودة من حواف السماء، يروحان يحاولان برفق، انتشال الجزء المحروق من الأرض.

وعرفتْ أكثر، حجم الكارثة إذ تصير المرأة “شبّيحة”، والنساء “عصابة”، إذ يُقاد الأطفال إلى “القوادة”، وكادتْ تسمع هديراً كونياً يدقّ ناقوس الخطر حيال الكارثة هذه.

وعرفتْ أكثر، كيف أنّ بعض الذكور من “الثائرين” و”المثقفين”، ليس لهم أن يساندوا امرأة تفكر. تريد أن تفكر. تفوقهم في ذلك. يطيب لهؤلاء مساندة امرأة ثكلى مثلاً، أو امرأة تبكي بالعينين لا القلب، وتنزف بالجسد لا الروح (وهذا طبعاً ضرورة إنسانية وأخلاقية)، لكن ديوتيما، مراراً قرأتْ شماتة في عيون “ثائرين” و”مثقفين”، بدا لها أنهم كانوا يتمنّون أن تتوقف عن الكتابة. مراراً سمعتْ تبكيتاً في غير محلّه. لكن أحداً لم يقل كلمة حق حيال حق، وأحداً لم يشكر (هي التي لم تُرد شكراً أصلاً). الجميع راح يريد جرّها إلى هاويته، لكنها ببساطة، لا تريد أحداً. وعرفتْ أن حقد بعض النساء على امرأة تفكر وغير تقليدية، لا يقلّ عن حقد بعض الرجال حيال المرأة نفسها. وعرفتْ أكثر أن أقرب الناس في أوقات المحن – والأوقات هذه لم تهدأ يوماً – قد يكونون من ألدّ الأعداء. وأن أحطّ الناس، في أزمنة الغثيان، يظنّون أنفسهم قِمماً.
وعرفتْ أكثر أن الوجه الأشدّ خطورة، قد يكون وجه امرأة استحالَ فطْراً سامّاً، تحت سطحه خطوطٌ صفراء صفراء، تقطر السمّ قطراً، مُفضيةً إلى نزيف. وجه يسدي النصح الوقح إلى النازف بأن يعتبر النزف “تبرّعاً بالدم”.


“لا أطيق التحدّي، ولا المجابهة أطيق، لكن بالوحدة الكثيرة هذه، سأفتح السماء ستارةً، وأشعل النارَ في هشيم الحب الذي في براريَّ”. هكذا قرّرتْ ديوتيما.

  • عُلا شيب الدين، كاتبة سوريّة تُقيم ب
    إلمانيا