منذ مدة، أرسل إليّ صديق صحافي أحترمه، مادةً تناقش “مخيمات الأرامل” على الحدود السورية -التركية، وفي إدلب وريفي حماة وحلب الغربيَّيْن، طالباً رأيي فيها. منذ السطور الأولى، أحسستُ بضيق نفسي، ووجع؛ فلم أشأ إكمال المادة، ولم أشأ – تالياً- إبداء رأيٍ بما لست مؤمنة به منذ البداية، والصديق العزيز إياه، لا يعرف حتى الآن، لماذا لم أجب.
كنتُ طفلة صغيرة لم تتجاوز بعدُ الصف الأول أو الثاني الإبتدائي، حين كانت أمي تأخذني معها كل ليلة إثنين وجمعة، إلى مكان دينيّ يُسمى “المجلس” في البلدة التي جئتُ إليها من لبنان مع أهلي، حين كان عمري أربع سنوات. كل ما أتذكره الآن، أنني في ذاك “المجلس”، كنت أضع منديلاً أبيض محاكاةً لأمي، وأجلس إلى جانبها متكئة على ركبتها، وهي جالسة متربّعة على الأرض، أسوة بأخريات كثيرات يبكين ويدعين لدى سماعهنّ ما يقرأه الرجال الشيوخ “المشايخ” بصوت عالٍ، في غرفة مجاوِرة، ضمن ما يُعرَف بـ “حلقات الذِّكْر”. كنت أبكي مقلدة مَنْ حولي من النساء، وأفعل كل ما يفعلنه. لكنني أشعر في عمق طفولتي إياها، أن هذا الجو هو جو حزين وكئيب وممل، والشيء الوحيد الذي كان يخفف عليّ وطأة الحزن والاكتئاب هذين، هو قطع “البسكويت والراحة” التي كانت أمي تجلبها معها إلى هناك. والاجتماعات النسائية الخالصة في الزيارات العادية بين الجارات أو المعارف والأقارب، لم تكن – كذلك- مختلفة عن تلك الدينية، التي تتكتل فيها النساء بوصفهن نساء حزينات، كئيبات ومقهورات، (وياما) سمعتُ جملة “نحنا جنسنا معثَّر”.
أما “الاتحاد النسائي، فقد كنتُ دوماً أسمع عن خشونة نسائه و”قوتهن” وارتبط بذهني، أن نضال المرأة، يجب أن يقترن بالخشونة، إذ لا يستقيم أن تكون المرأة ناعمة رقيقة، ومناضلة في الوقت ذاته. إلى أن صرتُ أرى هؤلاء النساء، حين كنَّ يزرن المدرسة، بعد أن يجري تنبيهنا بخصوص زيارة وفد من الاتحاد النسائي. كنّ على المستوى الشخصي، نساء طيّبات، وعاديات، بل ومسكينات، لكن ما أن يؤطَّرن بالاتحاد المذكور– والذي هو اتحاد أسديّ/ بعثي- حتى يصبحن قاسيات/عسكريات، وعدوانيات في معنى ما. هناك قاعدة قانونية تقول إن “ما بُني على باطل؛ فهو باطل“. ويبدو أنني، منذ لك الحين، كنت أشعر ببطلان كل ما يقوم على أساس تكتُّل جنسي متشابه. كل حزب وكل حركة قائمة على أساس الانحياز لهوية جنسية، هي حركة متسلطة ومستبدة، فقيمة الإنسان ليست بجنسه(ذكر أو أنثى)، بل فيه هو نفسه كإنسان ذي معنى ومغزى في هذا العالم، في هذا الوجود.
صحيح أنني كنتُ وصديقاتي في المدرسة،في مرحلة المراهقة، وفي السنوات الجامعية الأولى، كنا نجد متعة خاصة، حين نكون لوحدنا كصبايا، من دون صبيان أو شباب، ونستمتع بتبادل الأسرار والحكايات الخاصة بنا كفتيات في أول طلعتهن، تجمعهن أحلام الارتباط بفارس الأحلام الخيالي الاستثنائي،كما تجمعهن المشاوير والرحلات، وحفلات الضحك والمزاح والرقص والاستماع إلى الأغاني الجذابة الضاجة بالحماسة، إضافة إلى تلك الأحاديث الشيّقة عن أحدث صيحات الموضة والمكياج والإكسسوارات…إلى آخر ما هنالك من تفاصيل أنثوية جميلة ومهضومة. صحيح أن ذلك كله كان يحصل، غير أن صورة النساء المجتمعات مع بعضهن البعض من دون وجود الجنس الآخر، بقيت في ذهني صورة حزينة وكئيبة، صورة شكوى وملل وتذمر، صورة ألم عميق وخيبة أمل وحسرة وانكسار عاطفي مرير، وروح ممزقة.
في سنواتي الأولى في„المدينة الجامعية” في دمشق، كانت الحياة – بالنسبة إليّ- حاضرة بكل إشراقتها ودهشتها الأولى، في الوحدات الخاصة بالطالبات. فيما بعد، طفح كيلي من ذاك التجمع الأنثوي الخالص، وصرت أبحث عن سبل الخلاص منه، بل وأحلم أحلام يقظة مجنونة، أتخيل فيها نفسي، مسؤولة في الجامعة ولدي قدرة على اتخاذ قرار إلغاء نظام وحدات خاصة بالطالبات وأخرى خاصة بالطلاب.
لن أطيل أكثر من ذلك، في الحديث عن تجربتي الخاصة، لكنني وددت من خلال هذه التجربة الشخصية، الكشف عن خطأ الاعتقاد بأن حل مشاكل النساء، يكون عبر عزلهن عن الرجال، لا بل أجد أن العقوبة الكبرى للإنسان، ربما تحدث عندما يجري إبعاده عن مكانه الطبيعي الصحي، وعزله في عالم سديمي غير متمايز، ليس مع من يشبهونه في الجنس فحسب، بل مع من يتقاطعون معه في الهم والغم، في الحزن والاكتئاب، فينجم عن ذلك “جحيم” هستيري، يجري فيه مداولة المشاكل، بين حامليها، دونما حلول. وأنا أعتقد أن فصل الرجال عن النساء في السجون على سبيل المثال، هو عقوبة تكاد تكون أكبر من عقوبة السجن نفسها.
وبالعودة إلى “مخيمات الأرامل”، أرى أنه مخطىء من يظن، أن مجرد تجميع نساء كلهن متشابهات، من حيث حالتهن الإجتماعية كأرامل، والزجّ بهنّ في مخيمات خاصة مسماة “مخيمات الأرامل”، هو حل لمشاكلهن وحماية لهن من شرور الرجال، لأن مجرد وجود حزينة مع حزينة، كئيبة مع كئيبة، ضعيفة مع ضعيفة، فاقدة أفق وأمل وسعي، مع فاقدة أفق وأمل وسعي، فهذا بحد ذاته ليس تكريساً للمشكلة فحسب، بل مفاقَمَتها أيضاً. إن جمع مقهورات مع بعضهن البعض، ودمغهن بهوية “المقهورة/ الأرملة” التي لا حول لها ولا قوة، وتماهي هؤلاء النساء مع “هويتهن” الضيقة تلك، سوف يولّد أشكالاً عديدة من العنف والدمار والخراب النفسي. العنف – هنا- سوف يتجلى من كره كل واحدة من هؤلاء لـ”هويتها” كأرملة، ورغبتها – تالياً- في قتل تلك الهوية أو النيل منها، عبر تعنيف النساء الأخريات، كونهن كلهن ينطوين على الهوية الضعيفة ذاتها. إن أبشع أشكال القهر، هو قهر الضعيف للضعيف، حيث كل واحد يرى نفسه في الآخر، ويسعى إلى قتل نفسه التي لا يحبها، في الآخر الشبيه. وإن أشنع ما تفعله التجمعات النسائية البحتة، هو سحق الفردية والخصوصية، فالنساء لسن امرأة واحدة، بل لكل منهن شخصيتها، وفرادتها وتميزها.
ربما ينسحب التحليل ذاته، على كامبات اللجوء الخاصة بالنساء، والتي عشتُ في واحد منها فترة قصيرة، في أيام لجوئي الأولى في ألمانيا، قبل أن أفرّ هاربة من “هوية” اللاجئة، مقاوِمِةً حتى الرمق الأخير، انهياراً نفسياً وشيكاً. ولم أشعر بالأمان قط، إلا حين صرتُ وحدي، محاوِلةً الاستقلال عن كل الهويات الضيقة. ولو أنني سأعود وأمر بنفس التجربة، أو سيُفرض عليّ العيش في عزلة نسائية، سأهشل بكل تأكيد في براري هذه الحياة الواسعة، ولن أستسلم لأي هوية.(و يا روح ما بعدك روح).
في ألمانيا، يوجد دار أو مأوى للنساء المعنَّفات Frauenhaus، وهي لا شك أنها ضرورية ومهمة إلى حد كبير، ولكنها من ناحية أخرى، هي أيضاً دار تجتمع فيها نساء تجمهن سمة المُعَنَّفة، التي ستتحول بدورها، إلى هوية قاتلة إذا ما تماهت معها المرأة، ألا وهي هوية “المعنَّفة”. وسوف يكون تعامل النساء مع بعضهن البعض في تلك الدار ، قائم على أساس الهوية ذاتها، أي “المعنَّفة”. وعليه ينبغي على أي وكل امرأة، كما أعتقد، ألا تجتاف (من الجوف) تلك الهوية، وأن لا تتعاطى مع نفسها ومع الحياة والعالم والآخرين من خلالها. بل ينبغي تجاوزها بكل ما لدى المرأة من إرادة وتصميم. ينبغي على المرأة أن لا تتوانى، وأن لا تتوقف عن التعلم وعن التحصيل المعرفي. كما ينبغي على المرأة أن تعمل وأن تستقل مادياً مهما كلفها الأمر.
*”التذويت” هو مصطلح يعود إلى الفيلسوف ألتوسير. ويعني إعطاء صفة ثابتة للذات، والاستمرار بها، والإصرار عليها، حتى تصبح بمثابة هوية للذات الموصوفة. كأن تمهر تلميذاً كسولاً، بالغباء، وتبقى تنعته بهذه الصفة، حتى “تذوته” بها، و”يتذوت” هو نفسه بها كذلك.