كان لحرب الإبادة الوحشيّة والممنهجة على غزّة والجنوب اللبناني وسورية، الأثر الأكبر على الحراك الثقافي في العالم العربي في عام 2024؛ ثمّة أسى جليّ رافقته بارقة أمل بغدٍ أفضل لدى الشارع الثقافي هنا أو هناك. فيما جاء سقوط الطاغية في دمشق ليختم مأساة شعبٍ طالما عانى من الظلم على مدى عقود من الزمن.
لكن ماذا قدّمتْ الثقافة خلال هذا العام، وماذا كان دور المثقف في كل ما جرى ويجري، سيما أنّه يمثّل صوت وضمير الجماهير وكذلك بوصفه مرآةً للمجتمع بكافة أطيافه وتوجهاته.
في هذا الحصاد السنوي نقرأ رؤى مختلفة لمجموعة من الكُتاب والمثقفين من معظم الدول العربيّة، حول المشهد الثقافي من أحداث ونشاطات على مدار السنة.
هنا القسم الأوّل:
علي صلاح بلداوي (شاعر وصحافي عراقي): “ما أردتُ قوله من البداية”
تنتهي هذه السنة بخيباتٍ كثيرةٍ بالنسبة لي، حالها حالُ السنةِ التي سبقتها، خيباتٌ لا على المستوى الشخصيّ، بل على المستوى الإنسانيّ وكلِّ ما له علاقةٌ بالساحةِ العربيّةِ المُباحةِ للهمج، حيثُ يدخلونَ وينهبونَ ويقتلونَ ويفعلونَ ما يحلو لهم، ولا نملكُ أمامهم سوى لقلقةِ اللسان. هل نعودُ إلى غزّةَ المنكوبة الوحيدة التي لم يبقَ منها سوى الاسم، بُقعة من الأرضِ لا زالت تُمحى، ولا زال أهلُها يُشرَّدونَ ويُبادونَ، وأطفالُها يموتونَ جوعًا وعطشًا، أم الجنوب اللبنانيَّ الذي قاتلَ وحيدًا برجاله، وصمدَ بشجاعةٍ أمام رعونةِ الصهيونيِّ الذي يخافهُ الملوكُ والأباطرةُ، أم سورية التي تخلَّصت من طاغيةٍ، وكلُّ ما أشاهدهُ يوحي بطغاةٍ آخرينَ يتنكَّرونَ بأزياءٍ مدنيَّةٍ وفي داخلها الشرّ والهيمنة، أم اليمنَ الذي آثرَ بكلِّ ما يملكُ على أن ينصرَ غزّةَ ولا يتركها، ولا زالَ يتلقى الضربات من الأعداءِ والطعنات من الأقرباء. بعدَ كلِّ هذا، فإنَّ خشيتي على العراق قائمةٌ، وتزدادُ، وأرجو أن لا يتحققَ ما أتخيَّلهُ كلَّ ليلةٍ على الوسادة.
رغم أنَّ الأيام مرَّت بمرارةٍ وترقّب، إلّا أنَّ القراءة والكتابة حاضرة، إن لم تكن محاولة لاستدامة القوّة النفسيّة، أو لمعرفةِ تفسيرٍ لما يجري، فقد تكون استجابةً لظروف العمل أو ما يتحتمُّ عليَّ قراءته من أجل مقالٍ أو مادةٍ ثقافيّة. ولو أردتُ الحديث عن عدد الكتب التي قرأتها، فلن أتذكّر، ولو أردتُ ذكر مجموعةٍ منها، لن أتذكر أيضًا. أنا قارئٌ نسّاء لا أدوّن أسماء الكتب التي أقرؤها، ولا أحصي عددها، ولا أقرأ بانتظامٍ حتّى، ربما أكون أكثر قارئٍ عشوائيٍّ في العالم، على مكتبي الآن تسعة كتب، وفي غرفٍ أخرى من البيت مجاميعٌ متناثرةٌ هنا وهناك، وكلّها على قائمة القراءة. هذه عادةٌ سيّئة، نعم، لكن لها فوائدها بالنسبة لي، وهذا قد لا يحدث مع الجميع. هنا، لعلّي أذكر على عجالةٍ، أربعة كتبٍ في حقولٍ مختلفة، يمكن أن تحضر الآن أمامي، الكتاب الأول بعنوان “ضدَّ أفلاطون… قصائد على حيطان المدن”، للشاعر والفنان العراقي ناصر مؤنس. يضمُّ هذا الكتاب مجموعة من القصائد المكتوبة على جدران مدينة ليدن الهولنديّة، ويقدّم مادة غنية تسلّط الضوء على الشعر المرسوم على حيطان المدن، وعلاقته بها بوصفه خطابًا بصريًا وجماليًا يحوّل المدينة إلى ديوان شعر عالمي، ولي مقال عنه، منشور في القسم الثقافي لصحيفة “العربي الجديد”. أما الكتاب الثاني فهو “المثقفون” لــ بول جونسون، والذي يتحدثُ فيه عن الوجه الآخر للمثقفين الذين قرأنا لهم وتأثرنا بهم، وعن تناقضاتهم الشديدة بين كتاباتهم من جهة، وتصرفاتهم الشخصية والأخلاقيّة من جهةٍ أخرى. الكتاب الثالث “جميعهم يتكلمون من فمي”، للسارد المغربي أنيس الرافعي، والذي وجدته ماهرًا في سرد أقاصيصه مُجيدًا لهذا الفنّ الصعب، وهو ما جعلني أطمع لقراءة المزيد من كتبه المنشورة. رابعًا، وليس كتابًا واحدًا، لأن الحصة هنا للشعر، فقد قرأت الكثير أيضًا، من عصورٍ ولغاتٍ مختلفة، وأعدتُ قراءة شعراء قرأتهم مسبقًا. سأذكر هنا عملين فقط، الأول مختارات من الشعر الأرمني، وهو إطلالة على شعراء الأرمن عبر العصور بترجمة من فاروجان كازانجيان، والثاني الأعمال الشعريّة لـ آرثر رامبو، والتي أعود إليها دائمًا، بترجمة جيّدة من الراحل رفعت سلام، وهو الآخر كان من ضمن من قرأت أعمالهم الشعريّة الكاملة هذا العام.
أما عن الفعاليات الثقافيّة، فلم أشارك سوى في “معرض العراق الدولي للكتاب” بصفتي قارئا، غير ذلك، لم أحضر أي فعاليّة أخرى، ليس بسبب عدم وجودها، بل لعدم تفرّغي، أو ربما لأسباب جدوى هذه الفعاليات، أو لأسبابٍ مزاجيّة.
على المستوى الشخصي، وفي ختام العام، أصدرتُ مجموعتي الشعريّة الأولى “ما أردتُ قوله من البداية”، عن دار مرفأ للثقافة والنشر في بيروت، وجاءت هذه المجموعة بعد تأجيلٍ لسنةٍ وأكثر، ولأسباب متفرقّة، على رأسها الحرب التي عطّلت كل المشاريع، فكلما شرعتُ في العمل على إتمامِ عملٍ ما، شعرتُ باللاجدوى مما نفعله أمام ما يحدث من موتٍ يوميّ نشاهده بأعيننا ولا نستطيع ردّه عن الكبار والصغار.
بلال خبيز (كاتب وناقد لبناني): الحب الذي تتحدث عنه الروايات
على مشارف نهاية العام الماضي، يجدر بي أن أذكر ما لم أقرأه أو أحسن إكمال قراءته. وبالمثل أيضا، يجدر بي أن أفكر في كل الأفلام التي لم أصبر لأتبين نهاياتها، وكل المعارض التي فوتتها.
العام الماضي، كان طافحا بتغيرات كبرى على قيمي ومفاهيمي لم يكن بالإمكان تجاهلها، ولم يكن بالإمكان أيضا تبين تداعياتها على أفكاري وعلى المشهد الفكري والفني والثقافي في بلادنا العربية وفي العالم استتباعا.
أن تقرأ رواية فأنت تبحث فيها عن معنى الحب، معنى الصداقة. أن تتضامن مع مأساة شخصية أو جماعة… لكنك في كل ذلك تتضامن وتدرك وتفكر وفق القيم التي كنت تحملها قبل فتح الرواية ومباشرة قراءتها. اليوم، وبعد كل ما حدث خلال العام المنصرم، أفكر: هل ما زال الحب الذي تتحدث عنه الروايات هو نفسه الذي يمكن أن يكون قائما في غزة أو سورية أو لبنان؟ هل ما زالت معايير الجمال والشجاعة التي نعتقد بها، هي نفسها التي ستكون سائدة في هذه البلدان؟ ويمكنني أن أضيف عشرات المعايير والقيم التي باتت بعد كل ما جرى وتكشف في هذه البلدان، غير قادرة على إعطاء المعنى. لنفكر قليلا في عشرات آلاف النساء اللاتي يربين أولادهن ويعلمنهم، بعد اختفاء أزواجهن في سجون الأسد. هل يصح في وصف هذه المرأة تعبير من قبيل: “امرأة مستقلة قوية”؟ هل كانت تريد أن تكون قوية حقا، هل هي قوية حقا؟ هل يمكننا أن نصدر قانونا في هذا البلد يمنع النساء من ممارسة بعض الأعمال؟ إذا كن يجاهدن لإطعام أطفالهن وليس ثمة معين لهن في أي مجال؟
لنذهب أبعد قليلا في مساءلة القيم والأفكار المسبقة: هل يمكن أن نتحدث عن معايير جمال حفظناها عن ظهر قلب، يتبوأ فيها براد بيت عرش الجمال الذكوري وتتبوأ فيها مونيكا بيلوتشي عرش الجمال الأنثوي؟ الأرجح أن المتمعن في أحوال غزة وسورية ولبنان سيلاحظ أن عشرات الآلاف ممن فقدوا عضوا من أعضائهم باتوا يشكلون نسبة راجحة من الاجتماع، وأن هؤلاء بحسب معايير الجمال التي نسلم بها، ناقصون نقصا فادحا، لكنهم على نحو ما كانوا جميلين ورائعين، وكان ثمة من يقعون في إغواء جمالهم؟ كيف نقيس الجمال ومعاييره اليوم؟ ثمة جهد كبير يجب أن نبذله كفنانين وكتاب ومثقفين لندرك حقيقة ما تغير. وهذا جهد لا تفيد في تخفيفه روايات وكتب أفكار وفلاسفة وفنانين. لنكمل وفق هذا المنحى، هل قيمة القوة الذكورية ما زالت تقاس في هذه البلاد برشاقة الجسم وتعبيره الصارخ عن سلامته الصحية وقوته الجسدية؟ أم أننا بتنا ملزمين بأن نعاين مكامن القوة في من فقدوا أعينهم تحت التعذيب في سجون الأسد، ومن أصيبوا بشلل في بعض أطرافهم بسبب التعذيب أو القصف؟ هل نجرؤ أن نقيم مثالا للجمال والشجاعة والقوة يستثني كل هؤلاء من معاييرنا وأمثلتنا؟ وإذا كنا مستعدين لمثل هذه المغامرة، فما الذي يمكن أن نوصف به سوى أننا ننحو في مغامرتنا هذه لأن نكون جلادين ثقافيين؟
هذا العام لم يكن مجهدا ومحزنا فقط، لقد جعلنا جميعا فاقدي نطق ومتلعثمي فكر. وعلينا أن نبدأ رحلتنا من الصفر الذي رسمته لنا معاناة الشعب الفلسطيني والسوري واللبناني. وأن نباشر فنوننا من هذا الصفر بالذات. ما زلت حتى اللحظة متلجلجا وعييا، لذلك اعتقد أن روايات ماريو فارغاس يوسا، وقصائد أدونيس ودرويش غير قادرة على الإجابة عن تساؤلاتي، هذا إذا لم تكن تبني اليوم عالما أثيريا لا مكان فيه لحيواتنا المهدورة.
محمد جعفر (روائي وقاص جزائري): عام الرواية بامتياز
في الجزائر، من الأعمال التي لفتت انتباهي هذه السنة، رواية أحمد طيباوي، هذا المبدع الذي ما يزال يمارس غواياته. وفي روايته الحديثة “الحب عربة مهترئة” الصادرة عن دار الشروق المصرية نجده يتناول سيرة الحب، وإن من زاوية بدت لي غير مطروقة، كما أن الجوانب الفنية التي اشتغل عليها الكاتب مدت العمل بأكثر من رافد مهم. أيضا أنهيت قبل مدة قصيرة رواية “منام القيلولة”، للمبدع أمين الزاوي، وكانت قد صدرت عن دار العين المصرية، وأظنها عمل ممتاز يليق بروائي كبير. أيضا لا بد من أن أشير أيضا إلى رواية أحمد عبد الكريم والتي جاءت بعنوان “رسول الفضة”، وهو عمل تاريخي أرخ للصحراء والبداوة والحضارة، كما حاول اقتفاء آثار شاعر حقيقي والاحتفاء بأشعاره، هذا دون أن يفوتني أن أشيد بالمجموعة الشعرية “بئر تهذي بالأسرار” للشاعر والأكاديمي ميلود حكيم، أيضا أحب أن أنوه بمجموعة قصصية لافتة، وهي للكاتبة غزلان تواتي، وتحمل عنوان “توقيت غير مناسب لشراء السمك”.
عربيا أعتقد أن رواية “الأشجار تمشي في الإسكندرية” لعلاء الأسواني من الأعمال المهمة والملفتة، والكاتب رغم طرقه لنفس التيمة المحببة إليه، وعنايته برصد المجتمع المصري عبر محطات زمنية مختلفة، إلا أنه قادر على أن يفعل ذلك كل مرة بنفس جديد يلفت انتباه القارئ ويشده. أيضا يجب أن أشيد برواية “ميكرفون كاتم صوت” للروائي اللبناني محمد طرزي لحبكتها المميزة وقدرتها على رصد الواقع اللبناني بتحيزاته وتحزباته من دون أن تدخل في لعبة التعاطف، والرواية نفسها فازت بجائزتين مهمتين هذا العام، كتارا ونجيب محفوظ، ما يدل على أنها فعلا استطاعت لفت الانتباه، كما أحب أن أنوه بالمجموعة القصصية “خدعة هيمنغواي” للمبدع الجميل أحمد مجدي همام.
وللصراحة لم أستطع هضم أعمال الروائية هان كانغ، الفائزة بنوبل هذا العام، وأنا لا أحاول أن أضع نفسي خارج السياق وبعيدا عن الاتفاق العام، كما لا رغبة لي في أن أغرد خارج السرب، وما أود قوله هو أن الكاتبة فعلا تجيد صنعتها، لكني لم أعثر في أي من أعمالها ما يميز الأعمال الخالدة، وأما روايتها “النباتية” فقد اطلعت عليها قبل عدة سنوات، وحصل ذلك لما فازت بمان بوكر سنة 2016، وكنت قد سجلت حينها بعض التحفظات على العمل، كما أني راجعت تحفظاتي مؤخرا، وأنوي طرحها للنقاش من خلال مقال مستقل.
بخلاف ذلك أحب أن ألفت الانتباه إلى عملين اطلعت عليهما مؤخرا، الأول بعنوان “الكراسي الاثنا عشر”، وهو عمل كلاسيكي، والجميل فيه أنه من تأليف كاتبين روسيين اثنين هما إيليا إيلف ويفغيني بتروف، كما لفتت انتباهي رواية “السر الأخير” لجوزيه دوس سانتوس من البرتغال.
نور حريري (كاتبة ومترجمة سوريّة مقيمة في ألمانيا): العودة إلى نقطة الصفر…
أصعب العودات هي العودة إلى الصفر والبدء من جديد. من حيث المبدأ، العودة في مستوى الفكر مستحيلة، فلا يمكن للمرء أن يضغط على زر حذف ببساطة ويحذف ما لديه من أفكار، كما أن العودة ستبدو أكثر استحالة حين نُدرك أن الأمر لا يتعلق بالبيانات التي نحذفها وحسب، بل بإطار تفكير أساسي لا يسمح لنا إلا بإدخال بيانات معينة بطريقة معينة من جديد، ما يجعل العودة شكلًا من أشكال التكرار. وعليه، ما الجدوى من العودة إلى الصفر؟
إن كانت العودة تكرارًا، فهي بلا شك تكرار جديد…
هذه الأعمال التي أختارها هنا تسمح بالعودة إلى الصفر بشكل ما، ربما مستحيل، لكنه جديد، ولأن القراءة التي أدافع عنها لا تحدث في كتب معيّنة، بل تحدث بين الكتب، لا أختار عناوين كتب، بل أختار أعمالًا وعوالم… وعليه، لن أشير إلى كتب “تغيِّر حياتنا”، بل سأشير إلى كتب “تُزَعزِع العلاقات” التي تُبنى عليها أفكارنا ومعتقداتنا.
أولًا، أعمال الأنثروبولوجي الكندي مارشال سالينز الذي يُعيد النظر في ثنائية الثقافة والطبيعة. بعيدًا عن أفكار استقلالية الثقافة عن الطبيعة، أو الاستمرارية بين الثقافة والطبيعة، أو تفكيك الثقافة والطبيعة، أو إيجاد الثقافة في قلب الطبيعة أو العكس، يميّز سالينز بين الطبيعة والبيولوجيا (الوظائف والتطوّر والغرائز والحاجات الأساسية)، بمعنى أنه يجد التمييز الأول لا بين الثقافة والطبيعة، بل بين الطبيعة والبيولوجيا. فالبيولوجيا التي نعرفها حديثة العهد وقد تطوَّرت من خلال اصطفاء “ثقافي”، لا “طبيعي”. وبذلك، يطعن في تراث الفلسفة الذي بُني على “أوهام” متعلقة بالثقافة والطبيعة.
ثانيًا، أعمال الفيلسوف الياباني كوجين كاراتاني. يُعَد كاراتاني فيلسوفًا ماركسيًا، لكنه ينقد بعض المفاهيم الماركسية الأساسية ويرى مثلًا أن التبادل يسبق الإنتاج، ويشير إلى أن أنماط التبادل هي التي تحدد العلاقات الاجتماعية والبُنى الاقتصادية في كل عصر. فهناك تبادل قائم على السوق، وآخر قائم على السيادة، وأنماط أخرى، وهي أنماط متداخلة ويصعب التمييز بينها. وقد أثارت أفكار كاراتاني نقاشات واسعة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية.
ثالثًا، أعمال أدبية وفلسفية مختلفة (مذكرات إدغار شنايدر، حياة غلن غولد…) تكتشف عالَم التنوع العصبي Neurodiversity بصورة عامة ومتلازمة أسبرغر بصورة خاصة. بدأ العلم في التعامل مع بعض الأنواع العصبية بشكل مختلف. وعلى الرغم من دمج متلازمة أسبرغر مع اضطرابات طيف التوحد، كثير من العلماء يرفضون هذا الدمج، ويرفضون التعامل معه مَرَضيًّا، ويرون أنه لا يمثّل اضطرابًا، بل يمثّل حلًا، “طفرة”، أو مرحلة متقدمة في التطور البشري. المصابون بمتلازمة إسبرغر لا يظهرون سلوكًا غير مألوف، بل يميلون إلى العزلة، والتفكير التجريدي والانتباه للبنى والأنساق، والاهتمام بأشياء محددة، ويمتلكون ذكاءً مرتفعًا أو مهارات مميزة في مجالات كالعلوم والفنون. ويقدّرون الفن والجمال تقديرًا خاصًا. وهي الصفات الشخصية الفنية والفلسفية والعلمية عبر التاريخ، ما يضعنا مباشرة في قلب “الفلسفة العصبية” ويطرح أسئلة الذات في علاقتها بالعقل والأخلاق والجمال من زاوية مختلفة تمامًا.
محمد خضر (شاعر سعودي): رغبة بالحضور الثقافي
في أواخر سنة 2023، كتبت عن سنة مليئة بالحصاد الثقافي، برغم العزلة، وما تأخذنا إليه الحياة بعيدًا عن فضاءات الثقافة والأدب وأجوائهما، لكن العام 2024 الذي مضى هو الآخر، كان ثمة رغبة مختلفة وانعتاق نحو الحضور والسفر والانطلاق، حضرت الكثير من الأمسيات الثقافية، وكثيرًا من المعارض الفنية، وشاركت في كتابة عدة بيانات فنية، أقمت أمسيتين شعريتين في المنامة والدمام، وسعدت بمشاركتي في معتزل الكتابة في بلجرشي والباحة الذي أقامته هيئة الأدب والنشر والترجمة مع مجموعة من الشعراء العرب، هذه التجربة التي أخذتني في عشرة أيام إلى عزلة حميمة وهادئة مع الكتابة، لأعود وقد كتبت جديدًا، وراجعت الكثير من المسودات، كما سعدت بالمشاركة في ملتقى استعادة الشعر من جيل الآباء إلى الألفية الجديدة في عمَّان الذي دعيت له من المؤسستين العريقتين: سلطان العويس، وعبد الحميد شومان، مع مجموعة مهمة من النّقاد ومجموعة من الشعراء العرب، كما لا أنسى زيارتي للمتحف الوطني والفن المعاصر في الكويت، ومتحف الفن الحديث في الدوحة.
لم أصدر شيئا عام 2024، لكن عملت على الكتابة في أكثر من مشروع، ونشرت بعض القصائد والمقالات في مجلات مثل اليمامة والمجلة العربية والبيان ومجلات عربية أخرى.
إبراهيم عادل (كاتب مصري): نهاية نظام الأسد
نعتبر أنفسنا محظوظين، كوسط أدبي وثقافي في مصر، لكون معرض الكتاب يأتي على رأس السنة من كل عام، وبالتالي يتصدر معرض القاهرة الدولي للكتاب قائمة الأحداث الثقافية في العام، خاصة وأنه يتيح لنا فرصة اللقاء والتعرف على عدد من الأصدقاء الكتاب كل عام، مع الإصدارات والكتب المميزة، في هذا العام سعدت بلقاء عدد من الأدباء والاستماع إلى تجاربهم في الأدب والكتابة، أذكر منهم الروائية والشاعرة المغربية عائشة البصري وابنتها ريم نجمي، كانت ندوة الاستماع إليهما معًا وإلى تجربة كل واحدة منهما في الكتابة فريدة بالفعل ومتميزة وثرية.
من أجمل قراءات هذا العام بالنسبة لي أولًا وأعتقد بالنسبة لعديد من القراء، رواية من البحرين، تلك الجزيرة الصغيرة الغامضة، كشفت لنا تاريخها وأسرارها الروائية ليلى المطوع في سرد جميل وأسلوب شيق برواية “المنسيون بين مائين”. كانت تجربة قراءة وتعرف متميزة بالفعل. أذكر أيضًا عوالم القرية المصريّة التي أطلت بنفسها هذا العام في عملين أرى أنهما من أجمل الأعمال التي تناولت القرية بشكل جديد ومختلف، الأول رواية “قرية المائة” لرحاب لؤي، والتي حازت بها على جائزة خيري شلبي للعمل الأول، والثانية “بياض على مد البصر” لمحمد عبد الرازق والذي عكس فيها من خلال جريمة في القرية أحوال الناس هناك بشكل شديد الرهافة والتأثير.
كان للسير الروائية نصيب كبير أيضًا هذا العام، فاستمتعت بتجربة التعرف على الإمام الغزالي روائيًا من خلال رواية الروائي الموريتاني المحترف أحمد فال الدين وروايته الثرية “دانشمند” التي تناول فيها تفاصيل حياة الغزالي وعالمه والعصر الذي عاش فيه، لا سيما الحروب الصليبية واحتلال القدس وما دار آنذاك، كما اقتربنا من عالم أبو الوليد ابن رشد في رواية “بيت من زخرف” للروائي المصري إبراهيم فرغلي، وان اختلفت منطلقات كل واحدٍ منهما عن الآخر، فقد حملت الأخيرة رسالة واضحة تتعلق بموقف المثقفين من الحرية وإعمال العقل وضرورة مواجهة الرجعية والتخلف في عالمنا العربي.
حضرت هذا العام عدد من الجوائز الأدبية الجديدة على الساحة، بل وأثار بعضها الكثير من الجدل، أقصد بها جائزة القلم الذهبي السعودية، لا سيما وأنها خصصت الجائزة لما أسمته بالرواية الأكثر مبيعًا، وجاءت القائمة الطويلة لها لتكشف لنا عن عدد من الأقلام الهامة في مجالات مثل الرواية التاريخية أو النفسية، وأحب أن أشير هنا إلى ثلاث روايات وهي “أشباح مرجانة” لمحمود عبد الشكور، و”مونوبلي” لنذير الزعبي، و”بنسيون عجب هانم” لمنى سلامة، التي فرحت بشكل خاص لوصولهم إلى هذه الجائزة لأني أعتقد أنها أقلام جادة وتستحق التركيز عليها وقراءتها.
من الجوائز الأدبية الجديدة لهذا العام أيضًا جائزة إدوار الخراط للإبداع العربي والتي بدأت من مصر وتقرر أنها ستكون من العام القادم للمبدعين من كل الوطن العربي، وسعدت كثيرًا بحصول مجموعة الروائي والقاص أحمد عبد المنعم رمضان عليها هذا العام عن مجموعته الجميلة “قطط تعوي وكلاب تموء”، فهي مجموعة جميلة ومكتوبة بحرفية عالية بالفعل.
لا أعد نفسي مهتمًا بعالم السينما رغم أني أحبه، ولكن كانت مشاهداتي هذا العام قليلة نسبيًا، ولكني أحب أن أشير إلى فيلم تسجيلي جميل ومؤثر كان من الأفلام الفائزة في مهرجان القاهرة السينمائي هذا العام هو فيلم “أبو زعبل 89” للمخرج بسام مرتضى، وكذلك فيلم “دخل الربيع يضحك” للمخرجة نهى عادل، والفيلمان على اختلافهما الشديد إلا أنهما حالة سينمائية شديدة الجمال والخصوصية.
لا شك في أن الأحداث السياسية الكبرى لا تنفصل عن واقعنا الثقافي والاجتماعي، والحقيقة أن نهاية نظام الأسد كان حدث العام بامتياز، واللافت بالنسبة لي أنه كان فرصة لاستعادة التعرف على أقلام سورية وثّقت التعذيب والسجون وآلامه، وأعد مجموعة إبراهيم صموئيل القصصية “رائحة الخطو الثقيل” خير معبّر عن هذه المرحلة، بالإضافة إلى العديد من الروايات السورية طبعًا مثل “جمهورية الظلام” لفواز حداد وغيرها.
هدى مرمر (كاتبة وصحافيّة لبنانية): جائزة نوبل للأدب
في عام 2024 اهتممتُ كثيرًا بأدب الشعوب الأصليّة، وخاصّة الأميركية أو مَن يُطلق عليهم لقب الهنود الحمر. وضمّت اختياراتي الكتب التاريخية (“Native Nations: A Millenium in North America” Kathleen DuVal)، الروائية (“The Sentence” Louise Erdrich)، والشعر (“An American Sunrise” Joy Harjo). كما كان للأدب الفلسطيني حصّة الأسد في قراءاتي وأبرزها رواية “وحيدة كغرفة مزدحمة” للكاتبة بدار سالم، ونوفيلّا “لعنة صبيّ كُرات الطين” للقاصّ مازن معروف. باكورة بدار سالم الروائية تنتمي لأدب الرسائل. نتابع فيها رسائل بطلة الرواية الإلكترونية (الإيميلات) مع مختلف الأشخاص في فترة محددة من شبابها، ونرى في خلفية رسائلها الذكية والمنكّهة بالكوميديا السوداء مشاهد من الواقع الفلسطيني القاسي على الصعيدين الحميمي والاجتماعي. أمّا جديد مازن معروف المذكور أعلاه فهو رواية قصيرة تدور أحداثها بعد 100 عام من النكبة الفلسطينية، حيث يعيش الطفل الفلسطيني الأخير ويستمدّ قوته التي تُرعب الإسرائيليين من أرواح كلّ الفلسطينيين الذين أبادوهم. رواية مختلفة جدًا تُضاف لرصيد الكاتب القصصيّ الذي يعطي الصوت مرّة جديدة لأطفال الحرب.
على صعيد حركة النشر العالمية لاحظتُ اهتمامًا متزايدًا بالأدب الآسيوي، وخاصة الياباني والكوري الجنوبي، ممّا انعكس على جائزة نوبل التي اختارت الكورية الجنوبية هان كانغ لجائزتها في فرع الأدب. ما يميّز الأدب الكوري الجنوبي، وأدب هان كانغ بالذات، هو التجربة الكورية التي طبعتها أحداث الخمسينيات السياسية والمظاهرات الطلابية وقتها، إضافةً لما وصلت إليه الحياة الرأسمالية اليومية في المجتمع الذكوري. من أبرز أعمال الكاتبة روايتَا “النباتية” و”أفعال بشرية”. فيما يتعلّق بالروايات اليابانية الرائجة، فهي تنطوي على الكتب الإيجابية الشافية والفانتازية وخاصة تلك التي تدور أحداثها في مقاه أو مكتبات وتحتلّ القطط فيها قسمًا مهمًّا في السرد. لا شكّ في أنّ رواية هاروكي موراكامي الأشهر “كافكا على الشاطئ” كانت من الكتب الرائدة في هذا النوع، والتي أسّست لهذا الترند. وقد بدأت دور النشر العربية باللحاق بهذه الموجة ومن الكتب الأكثر طلبًا روايات سلسلة “حكايات من المقهى: قبل أن تبرد القهوة” للكاتب توشيكازو كواغوشي. إضافةً إلى ما سبق، تتربّع كتب الشباب البالغين الرومانسية Young Adult على قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في الغرب، وبالأخصّ روايات الكاتبة الأميركية كولين هوفر (نجمة ال”BookTok” على منصة تيكتوك) والإيرلندية سالي روني.
أمّا أفضل ما قرأت هذا العام فهو الرواية التجريبية “Lost Children Archive” للكاتبة فاليريا لويزلي والتي صدرت بترجمتها العربية حديثًا تحت عنوان “أرشيف الأطفال المفقودين”. تحكي الرواية عن رحلة تقفّي آثار وبقايا أصداء أصوات المفقودين والمقتولين في المنطقة الحدودية بين الولايات المتحدة والمكسيك منذ القرن السابع عشر ولغاية اليوم، معرّيةً النظام الرأسمالي الكولونيالي الأميركي الذي يقتل الطفولة وتاريخ الشعوب. الرواية مبنية على الواقع الذي عايشته الكاتبة المكسيكية مع اللاجئين غير الشرعيين ومراكز احتجازهم، وأيضًا أبحاثها الميدانية والأكاديمية في مواضيع الهجرة والعنصرية والإبادة العرقية للسكّان الأصليين.
شاكر الأنباري (كاتب وروائي عراقي): رحيل الروائي بول أوستر
ما لفت انتباه الوسط الثقافي العالمي، والعربي، في هذه السنة هو رحيل الروائي الأميركي بول أوستر، السارد الفذّ الجميل الذي اشتهر لدى القارئ عبر رواياته الثلاث “ثلاثية نيويورك”، “في بلاد الأشياء الأخيرة”، و”ليلة التنبؤ”. والمعروف عن روايته “ليلة التنبؤ”، على سبيل المثال، أنها تشتغل على كيفية كتابة الرواية، وما هي التيمة المهمة في الحدث، وكيفية النظر إلى الشخوص، والغوص في تناقضاتهم الإنسانية، وعلاقة الكلام بالمستقبل، في ما أطلق عليه بالتنبؤ، أو الحدس، أو التخاطر.
يدفع بول أوستر قارئه إلى أقرب قلم، أو كومبيوتر، لكي يبتدئ في تدوين روايته الخاصة، إذ يصل إلى قناعة تامة بأن كل سلوك، كل حوار بسيط، كل إنسان، مهما ضؤل شأنه في الحياة، يمكن أن يصبح نسيجا في قماشة الرواية.
وبرحيل أوستر يمكن القول إن عالم الرواية فقد أحد أهم الروائيين الأحياء في هذه السنة.
وفي منتصف شهر شباط/ فبراير تم افتتاح معرض العراق الدولي للكتاب، تحت شعار “صارت تسمى فلسطين”، وقد كرس المعرض فعالياته الثقافية والفكرية حول فلسطين، شعرًا ونثرًا وفنًا، وكانت لي مساهمة في نشاطات المعرض تمثلت بإدارة ندوة تخص القضية الفلسطينية وتجلياتها في الرواية، عراقيًا وعربيًا. وشارك فيها الروائي الكويتي سعود السنعوسي، والناقد العراقي شجاع العاني، وامتدت لساعة كاملة.
وجاء المعرض حدثًا استثنائيًا في بغداد لعدد دور النشر العراقية والعربية المشاركة، والإقبال الواسع من قبل المهتمين بالكتاب الورقي. كما تزامن مع ذلك صدور روايتي “أموات في متحف الأحياء” التي تغوص في أجواء شخصيات سورية وعراقية تعيش الهجرة المريرة في بلدة أوروبية، ووقعتها في جناح دار سطور للنشر.
وليس بعيدًا عن معرض بغداد ساهمت أيضًا في ندوات معرض الرباط الدولي للكتاب الذي عقد في منتصف أيار/ مايو، وذلك في ندوة “الرواية وعلم النفس” حيث كانت لي مشاركة مع كل من أسماء علاء الدين من مصر، وحسن المودن من المغرب، وأدار الندوة أحمد محمد عدة، وقد أقيمت الندوة في صالة الحوار داخل المعرض. وكلنا يعرف ما كان لمدرسة التحليل النفسي من شيوع في الثقافة العربية، وهذا ما وسّع من أفق المثقف العربي وطريقة فهمه للفرد من أبناء وطنه.
أما ندوة الأدب والبيئة والتغيرات المناخية في معرض الرباط فقد شارك فيها كل من د. رشيد الياقوتي “المغرب”/ شاكر الأنباري” العراق”/ زهران القاسمي “سلطنة عمان”. إذ ليس هناك اليوم من يمكنه تجاهل تأثير البيئة المحيطة على رؤيته الفنية، سواء كان شاعرًا أو روائيًا أو فنانًا، وهذه ثوابت لا يمكن لأي مثقف تجاهلها. ولدينا في ثقافتنا العربية تحضر البيئة، والطبيعة خصوصًا، في أعمال ابراهيم الكوني وعبد الرحمن منيف وحنا مينه، وغيرهم، وأعمال شعراء وفنانين وصحافيين آخرين. وكانت هناك وجوه ثقافية بارزة شاركت في نشاطات معرض الرباط مثل الشاعر عبد اللطيف اللعبي، وعلي بدر، وياسين عدنان، وعمر شبانة، ومعن البياري، وسواهم الكثير من الأدباء العرب والمغاربة.
ومن الكتب المهمة التي صدرت هذه السنة كتاب “أن تعيش حياة علمانية”، بترجمة سامر البغدادي، عن دار سطور، وقمت بتحريره للدار، وفيه تساؤلات مهمة ومعاصرة عن الفرد، وهل يمكن له أن يعيش حياته بدون الإيمان بدين، أو إله؟ خاصة في مجتمعاتنا الحديثة التي تتطلب أقصى درجة من العقلانية، والعلم، والتواصل مع الآخر؟ وهل يصح فصل الدين عن الدولة؟
وتلك في الحقيقة أسئلة جوهرية اليوم، لا تخص المجتمع الأميركي فقط، بل هي أسئلة وجودية تخص البشر كلهم.
ويجري الباحث فيليب زوكرمان مقارنة بين الدول العلمانية والدول الدينية. ويقوم مؤلف هذا الكتاب، وعبر الرصد والمقابلات ووجهات النظر والحوارات، بالخوض في تجربة أشخاص دخلوا في هذا الحقل، حقل الإلحاد، واللادينية، والعلمانية، ليقدم للقارئ تلك النماذج، وكيف يعيشون في كنف المجتمع متعدد في معتقداته. والكتاب ليس دعوة للإلحاد إنما تتبع لتغيرات مجتمع وظواهره المستجدة في قضية علاقة الفرد بالإله، فيما يشمل الأديان التوحيدية بالذات.