أكثر عبارة متداولة هذه الأيام في سوريا بعد إسقاط نظام الأسد هي عبارة سوريا الجديدة أو المأمولة أو المنشودة ويتفاوت المعنى والمقصد ويتباين المدلول وفقا للجهة التي ترددها وتنادي بها.
السياسة في نسختها السورية
يروي محمد حسنين هيكل أن شكري القوتلي، الرئيس السوري في زمن “الوحدة” بين مصر وسوريا، وجّه إلى الرئيس المصري يومذاك جمال عبدالناصر العبارة التالية، تعليقا على توقيع اتفاقية “الوحدة” بين البلدين في شباط 1958: “أنت لا تعرف ماذا أخذت يا سيادة الرئيس! أنت أخذت شعبا يعتقد كل من فيه أنه سياسي، ويعتقد خمسون في المئة من ناسه أنهم زعماء، ويعتقد خمسة وعشرون في المئة منهم أنهم أنبياء، بينما يعتقد عشرة في المئة على الأقل أنهم آلهة.”
المقاصد الضمنية في كلام القوتلي، العارف والخبير بشؤون قومه، تفوق المعاني الصريحة، وهي انعدام التجانس والتناغم المجتمعي والسياسي والثقافي بين المكونات السورية ذات الولاء المتناقض للقوى الخارجية، الذي أنتج على الدوام حوار الطرشان بين السوريين. بالإضافة إلى عدم قبولهم لبعضهم البعض وعدم اعترافهم ببعضهم البعض. وكنتيجة، سيكون من الصعب جدا حكم هذا البلد وقاطنيه. وليس من الفراغ أن سوريا شهدت خلال 21 سنة فقط من العام 1949 ولغاية العام 1970 عشرة انقلابات عسكرية ناجحة وعشرة انقلابات فاشلة. وإذا كانت سوريا قد شهدت مخاض وإرهاصات حياة سياسية حقيقية إلى درجة ما قبل الاستقلال ولغاية 1963، إلا أن انقلاب حزب البعث في العام 1963 قد وجّه لتلك التقاليد الوليدة ضربة قاضية، ثم قام حافظ الأسد بالإجهاز عليها تماما في العام 1970.
تاريخ المناكفات السياسية في سوريا يعيد نفسه اليوم على نحو مختلف بعد زوال نظام الاستبداد واستلام الإسلاميين السلطة المؤقتة الحالية، وعلى الأغلب الدائمة القادمة. والمسألة المحورية في هذه المناكفات التي قد تتمدد أو تتقلص في قادم الوقت هي صورة أو نموذج “سوريا الجديدة” التي ينادي بها مختلف السوريين وقواهم السياسية والمسلحة، كل على هواه وكل يغني على ليلاه.
◄ الفرصة الحالية المتاحة للسوريين بعد التخلص من حكم بيت الأسد لا تقدر بثمن، والامتحان الأصعب هو قدرة السوريين على الإثبات بأنهم أكفاء لطرح بديل أفضل من حكم البعث وآل الأسد
أكثر عبارة متداولة هذه الأيام في سوريا المنهكة بعد إسقاط نظام الأسد هي عبارة سوريا الجديدة أو المأمولة أو المنشودة. ويتفاوت المعنى والمقصد ويتباين المدلول وفقا للجهة التي ترددها وتنادي بها. ويصل هذا التباين أحيانا إلى درجة التناقض بين الشركاء الفرقاء في الوطن الممزق والجريح. فهناك من يتحدث عن دولة المواطنة في سوريا مدنية ديمقراطية، وهناك من يذهب أبعد من ذلك مطالبا بسوريا مدنية ديمقراطية لا مركزية أو فيدرالية، وهناك من يريد سوريا إسلامية معتدلة، وفريق رابع يريدها سوريا إسلامية متشددة. لكن التاريخ والحاضر يؤكدان بأن المنتصر وحده في أيّ مرحلة، بصرف النظر عن طبيعته وطريقة الانتصار، هو الذي يفرض نموذجه في النهاية كثمن وكفاتورة للانتصار، وما على الآخرين غير الراضين سوى المشاركة الطوعية أو القسرية أو المعارضة إن كانت مسموحة أو الإذعان وانتظار فرص أخرى.
المشهد السياسي السوري فريد من نوعه. وتنبع هذه الفرادة من مجموعة من العوامل، لعل أهمها غياب الواقعية السياسية لدى معظم أقطاب العمل السياسي في سوريا. وأحيانا كثيرة غياب المنطق السياسي ذاته عن أقوال وأفعال العديد ممن يعملون في الحقل السياسي، مما يخلق انطباعا لدى الكثيرين بعدم أهلية النخبة السياسية السائدة للعمل السياسي المثمر الذي يستلزم الواقعية والحنكة والمرونة والبراغماتية. وينتج عن غياب الواقعية في التفكير السياسي خلط متعمد وغير متعمد بين الأهداف التي يمكن تحقيقها من قبل المنتصر القوي المهيمن في هذه المرحلة من ناحية، وبين الأمنيات التي يحلم بها غير المنتصر أو الضعيف من ناحية ثانية، هذه الأمنيات التي لا يمكن تحقيقها، على الأقل في الوقت الراهن، كونها نابعة من الضعيف غير المنتصر وغير المهيمن.
وهذا بدوره يدفعنا إلى الاستنتاج بأن السياسة في نسختها السورية تشوبها الطوباوية والسريالية، وهي نائية كثيرا عن النزعة الواقعية التي تولّد أفضل النماذج في السياسة والسياسيين، تلك النماذج القابلة للبقاء والدوام والصمود. وهذا لا يعني بالضرورة بأن النزعة الواقعية في عالم السياسة هي أفضل من غيرها، ولكنها الأكثر قابلية للاستدامة والثبات والاستقرار كونها قريبة ونابعة من الواقع، وفي النهاية هذا هو ديدن السياسة والسياسيين والمصفقين المطبلين.
وأكثر ما يتجلى فيه الآن غياب الواقعية السياسية عن المشهد السياسي السوري والمزج غير المنطقي وغير العقلاني بين الواقع والأمنية في سوريا، هو مطالبة الضعفاء غير المنتصرين والأقل عددا وعدة للأقوياء والمنتصرين والأكثر عددا وعدة بتنفيذ أجندات لم يؤمنوا بها هؤلاء المنتصرون في يوم من الأيام ولم يتبنّوها ولم يلتزموا بها خلال مسيرة مقارعتهم الطوعية والقسرية لنظام الأسد البائد. على سبيل المثال، المطالبة بسوريا مدنية ديمقراطية علمانية لا مركزية أو فيدرالية.
◄ أفضل ما يمكن أن يقوم به السوريون حاليا هو الركون إلى الهدوء، وأخذ نفس عميق، والجنوح نحو الواقعية السياسية في التفكير والتوقعات والتخطيط والتنفيذ
وبالعودة إلى أصحاب هذه المطالب، سنجد أنهم يشكلون الأقلية من حيث العدد والعدة. فعلى المستويين السياسي والشعبي، فإن الأغلبية من السوريين، أي العرب السُنّة الذين يشكلون حوالي 70 في المئة من السكان، لا يؤمنون بمثل هذه التوجهات، لا بل ويمقتونها وغالبا ما يتم اتهام أصحابها بالكفر والإلحاد وبالانفصالية وأحيانا بالخيانة وخدمة الأجندات المعادية. ونفس القاعدة تنطبق على القوى المسلحة والسياسية التي تمثل أغلبية العرب السُنة في سوريا، كهيئة تحرير الشام وبقية الفصائل التي تعمل معها. بالإضافة إلى القوى السياسية التي كانت تعارض نظام الأسد كمنصات إسطنبول والقاهرة وموسكو، إضافة إلى ما كانت تسمى بمعارضة الداخل. وجميعها أو أغلبها تتشارك نفس الرؤى المعادية للفيدرالية والمدنية والديمقراطية بالمعاني المتعارف عليها.
هذا بالإضافة إلى المحيط الإقليمي المؤثر بفاعلية على الداخل السوري، وخاصة تركيا التي لا تدخر جهدا في مؤازرة الفاتحين الجدد في دمشق في رفض الفيدرالية تحت ذريعة أنها تعني التقسيم، وأن السوريين إجمالا غير مؤهلين لتحمل تبعات الفيدرالية، وأن ذلك قد يؤثر على الأمن القومي التركي ويثير حماس الكُرد في تركيا ليحذوا حذو أشقائهم في سوريا. تركيا التي تعاني بالأساس من فيدرالية كردستان العراق وإن كانت تتعامل معها على أساس الربح والاستثمار والاستمالة، علما أنها ما زالت تسميه بإقليم شمال العراق وليس إقليم كردستان العراق. وبالنسبة إلى الاتكال على القوى الدولية في مسألة تأييد الفيدرالية في سوريا، فإن ذلك لا يمكن أن يكون طويل الأمد أو بشكل مطلق كون المصالح ستغلب المبادئ في النهاية، وقد تكون ذريعة التملص لاحقا من قبل القوى العالمية المؤثرة على الشأن السوري، أن أغلبية السكان الذين هم من العرب السُنّة يؤيدون النظام المركزي مع بعض المراعاة للأطراف والمكونات الأقل عددا وعدة.
وهنا تنبري عقدة أو معضلة التغيير، فمع انعدام مقومات التغيير المأمول والمنشود لا يمكن الحديث منطقيا عن التغيير السريع أو المفاجئ في سوريا، وفي أفضل الأحوال يمكن توقع التغيير المرحلي التدريجي البطيء. ومن جملة مقومات التغيير هنا هي الأكثرية والأقلية، فلا يمكن التنبؤ بالتغيير إذا كانت الأكثرية الحاكمة والمجتمعية لا تحبذه ولا تؤمن به، ولا يمكن توقع حدوث التغيير من قبل أقلية لا تتحكم في زمام الأمور مهما كانت هذه الأقلية العددية محط اهتمام من قبل القوى الدولية المهيمنة في هذه المرحلة.
المسألة هنا لا تتعلق بأحقية وأخلاقية وموضوعية المطالب التي تنادي بها الأقلية غير المنتصرة بقدر ما تتعلق بعامل القوة الوحيد القادر على ترجمة المطالب على أرض الواقع أو إبقائها مجرد حبر على ورق وأمنيات في الشعور وأضغاث أحلام في اللاشعور. علما أن هذه الأحقية والموضوعية والأخلاقية تبقى مسائل نسبية وتتباين بتباين الجهة السياسية التي تنظر إلى هذه المفردات وتجلياتها على الميدان، فما أراه حقا قد يراه الآخر باطلا والعكس صحيح.
◄ تاريخ المناكفات السياسية في سوريا يعيد نفسه اليوم على نحو مختلف بعد زوال نظام الاستبداد واستلام الإسلاميين السلطة المؤقتة الحالية، وعلى الأغلب الدائمة القادمة
مهما شطح بنا الخيال وجمح وغصنا في أعماق التفكير والتأملات والتصورات، فمن الصعب إن لم يكن من المحال أن نتصور بأن الفصائل الإسلامية المنتصرة في سوريا وفق الإرادات الدولية والإقليمية تؤمن وستعمل من أجل التغيير المنشود والمأمول من قبل أقلية عددية تسعى إلى سوريا مدنية ديمقراطية علمانية لا مركزية، مقابل أغلبية تجاهد في سبيل الحفاظ على سوريا مركزية نمطية بهوية عربية وإسلامية خالصة صافية من شوائب ورواسب التعددية والتنوع العرقي والديني والمذهبي.
أفضل ما يمكن أن يقوم به السوريون حاليا هو الركون إلى الهدوء، وأخذ نفس عميق، والجنوح نحو الواقعية السياسية في التفكير والتوقعات والتخطيط والتنفيذ. وقبل هذا وذاك تعلّم وإتقان ألف باء الحوار السياسي الداخلي، وماهية الحوكمة والمعارضة، وإسقاط سيناريو الاحتكام إلى السلاح والقوة لترهيب وترغيب الآخرين المختلفين، ورفض الانخراط في سياسة التجاذبات والمحاور الإقليمية أو التبعية لها، وعدم الاستقواء بالخارج لفرض أجندات داخلية على مكونات وقوى سياسية معينة.
المهمات المنتظرة من القيادة الجديدة الحالية أو التي ستفرض نفسها أو تُنتخب في المستقبل، إذا سارت الأمور بشكل طبيعي، كثيرة ومتشعبة، لكن ربما يجب إعطاء الأولوية للسلم المجتمعي وإشاعة السلام والطمأنينة لدى كافة أطياف المجتمع. الفرصة الحالية المتاحة للسوريين بعد التخلص من حكم بيت الأسد لا تقدر بثمن، والامتحان الأصعب هو قدرة السوريين على الإثبات بأنهم أكفاء لطرح بديل أفضل من حكم البعث وآل الأسد، فهل سينجح السوريون في هذا الامتحان الأصعب أم أنهم سيدورون ويخلدون في نفس الحلقة المفرغة التي ستفرخ في النهاية دكتاتورا صغيرا يكبر وينمو ويتجبر مع مرور الزمن بين جموع المصفقين والمطبلين والمزمرين الكثر؟ وبذلك سيعيد التاريخ وبجدارة نفسه من جديد، وسيبرهن السوريون بأن الخلل يكمن فيهم، فهؤلاء القادة لا يأتون من الكواكب الأخرى بل يولدون من الرحم السورية التي يبدو أنها لا تستطيع على الأغلب سوى إنجاب الطغاة. لكن مع ذلك لا ضرر ولا ضرار من الانتظار أو بالأحرى لا خيار سوى الانتظار، فالسوريون رزحوا تحت حكم البعث لمدة 61 عاما، منها 54 سنة تحت حكم عائلة الأسد، فليجربوا حكم الإسلاميين لبعض الوقت، لعله يكون أفضل، بما أنه لا يلوح في الأفق في الوقت الراهن أي بديل ثالث، ولن تكون نهاية التاريخ هنا، وربما تكون على العكس مجرد بداية طبيعية وصحيحة بالنسبة إلى سوريا والسوريين.