
البيت الراقص تحفة فنية في براغ
الطقس خريفي دافئ، والشمس تلوح بالمغيب وتسحب آخر خيوطها الذهبية عن القارة العجوز لتهبها إلى مكان آخر. والطائرة التي كنت على متنها كانت تحلق بكل سلاسة وانسيابية فوق السهول والجبال ومدن وبلدات أوروبية، كان لا يحجب روعة الاستمتاع برؤيتها سوى تلك الغمامات البيضاء السابحة في الفضاء الرحب التي لا أعلم لماذا يذكرني شكلها بحلوى “غزل البنات” التي كنت أتلذذ بأكلها أيام الطفولة.
وبين ذكريات الطفولة وأرض الواقع كسر صوت كابتن الطائرة لحظات التأمل ليعلن هبوطنا بعد أقل من ساعتين في مطار براغ الدولي الذي عدت إليه بعد غياب طويل دام لأكثر من عقد من الزمن. بسرعة البرق مررت في قسم ختم الجوازات، ثم سارعت لاستلام حقيبتي. فور دخولي إلى بهو المطار كان في انتظاري شاب طويل القامة، أشقر الملامح، رافعاً ورقة بيضاء تحمل اسمي، علمت عندها أنه السائق الذي جاء لينقلني إلى الفندق. في الطريق تبادلت أطراف الحديث مع ذلك الشاب المتحدر من أصول روسية، وتطرقنا إلى وباء كورونا، واللقاح، والحرب الأوكرانية – الروسية. ولكنني خلال مسافة النصف ساعة بين المطار والفندق كنت أتبع مقولة: “خير الكلام ما قل ودل” فهدفي كان الوصول إلى الفندق، وليس الدخول في شجار سياسي طويل. ودعته بكلمة “ديكويه” Děkuji التي تعني شكراً باللغة التشيكية، لأدخل عالم “أنداز” ANdAZ النجم الجديد في سلسلة فنادق الخمس نجوم في العاصمة الجميلة براغ.
قصر السكر
وجوه مبتسمة تتقن جيداً لغة الترحيب بالضيوف استقبلتني في هذا الفندق الذي شرع أبوابه للزوار في مطلع الربيع الماضي. هنا، كل شيء أنيق، جديد، مُتقن، ويفوح بلمسات الحداثة رغم مرور أكثر من 100 عام على تشييد هذا المبنى التاريخي الذي كان يعرف في السابق باسم “قصر السكر”. لماذا قصر السكر؟ فهذا المبنى العريق الذي يقف شامخاً وسط ساحة “سينوفاجنيه” المزنرة بالمباني الساحرة، كان في الماضي المكاتب الخاصة لتجارة السكر في البلاد، وكان يضم قاعات لاجتماع تجار السكر لمناقشة تلك التجارة التي ازدهرت في الفترة التي كانت تعرف فيها تشيكيا بتشيكوسلوفاكيا قبل تقسيمها عام 1993 إلى جمهوريتين مستقلتين تشيكيا وسلوفاكيا.
.jpeg)
قادتني الممرات داخل الفندق إلى قصص خرافية احتضنتها الجدران بأشكال هندسية لافتة للنظر لا يمكن فهمها أو معرفة قيمتها الفكرية والثقافية في حياة أهل البلاد إلا بعد أن يسرد قصة كل منها أحد العاملين في الفندق. انطلقت إلى غرفتي لتدهشني فيها منحوتة ضخمة لرأس أسد بارزة من الجدار فوق سريري. فالفندق يولي اهتماماً كبيراً للثقافة المحلية، لأن الأسد يرمز إلى القوة والسيادة في جمهورية التشيك وفي منطقة بوهيميا حيث تتمادى العاصمة براغ. لم أنهِ الليلة الأولى كسائح مُتعب في الغرفة، إذ نزلت إلى الطبقة الأرضية منه لخوض تجربة تدليل النفس والجسد في منتجع “كلارا روت” Klára Rott الصحي. ففي هذا الملاذ الفاخر الذي يحمل اسم شابة تشيكية أطلقت علامتها التجارية الخاصة في عالم مستحضرات العناية بالبشرة والجسم من المنتجات التشيكية العضوية النقية، خضت جلسة تدليك كانت كافية لضخي بالمزيد من الراحة، كما وهبتني النقاء الفكري والجسدي بعد يوم طويل بدأ في لندن وانتهى في براغ.
15 عاماً من التألق
مع إطلالة يوم جديد كنت كغيري من النزلاء نتناول طعام الإفطار في مطعم الفندق “زيم” ZEM المشرف على ساحة “سينوفاجنيه”. وكم تحلو الجلسات في ذلك المطعم الذي كنت أتردد إليه عشية كل يوم لتناول العشاء، وللحديث مع الطهاة، لأنني كنت أختار الجلوس الى البار المشرف على المطبخ المفتوح وأراقب كيفية تحضير المأكولات برشاقة وحرفية عالية. وغالباً ما كنت أمازح الطهاة عند إحضارهم الأطباق إلى طاولتي قائلاً: “لو أن جميع رواد المطعم يجلسون حولكم، لاختفى دور النادل في المطعم!”. لا يمكن لحاسة الذوق سوى أن تنشط في هذا المكان الذي تفوح من أرجائه رائحة المأكولات الشهية وتمتزج مع عُبق القهوة التي أداوم على احتسائها. ما إن أشارت عقارب الساعة إلى العاشرة صباحاً حتى هببت بترك فنجان القهوة وحيداً على الطاولة، فالتاكسي كان في انتظاري في الخارج لاصطحابي إلى إحدى أهم وجهات التبضع في البلاد – “فاشن أرينا براغ أوتليت” Fashion Arena Prague Outlet.
في الطريق كنت أراقب الحياة وهي تدب في هذه المدينة كغيرها تماماً من عواصم الأرض. ففي أي مدينة أحط الرحال، أرى العجقة ذاتها، وزحمة السير نفسها، ووجوهاً محلية، وأخرى غريبة. السيارة كانت تسير بعجلة في عمق أحياء براغ وأنا غارق في مشاهدة أساليب البناء المتنوعة، بدءاً من البسيط الذي راج في زمن الحقبة الشيوعية، الى الأساليب الأخرى التي تنتمي إلى الأزمنة الغابرة. فمنها ما يرقى إلى القرون الوسطى، أو العصر الباروكي، أو حتى عصر النهضة. فكل تلك الأساليب المعمارية عايشتها أثناء الرحلة بين الفندق و”الأوتليت” التي وصلت اليها في اليوم الثالث والأخير للاحتفالات التي كانت تقيمها للاحتفاء بمرور 15 عاماً على تأسيسها. كانت علامات البهجة والسرور مرسومة على وجوه الجميع، وبخاصة الأطفال. فأي شيء يسعدهم. وما أثار انتباهي تلك الصفوف الطويلة من الشباب والصبايا الذين كانوا ينتظرون دورهم بشوق ولهفة لالتقاط الصور التذكارية مع نجوم تشيكيا ومشاهيرها الذين كانوا موجودين هناك للمشاركة في ذلك اليوم السعيد. لم أعرف أياً منهم، فمن مشاهير جمهورية التشيك لا أعرف سوى السيدة الأولى السابقة داغمار هافلوفا زوجة الرئيس الراحل فاتسلاف هافل التي التقيتها مرة في قلعة براغ لإجراء حوار صحافي معها. كما أسمع بين الحين والآخر أغاني هانا زاغاروفا التي رغم عدم فهم أي كلمة منها، فإن صوتها الشجي المشحون بالعاطفة والحنان ينقلني إلى آفاق جديدة تنسيني كل ما يدور حولي.

دعتني واجهات المتاجر التي تفيض بأرقى الماركات العالمية بأسعار تنافسية إلى الدخول إليها. في كل متجر أدخله كانوا يبادرونني بالقول: “دوبري دن” Dobrý den أي نهار سعيد. وعند إخبارهم أنني لا أتكلم التشيكية، كانوا يسرعون للحديث بالإنكليزية تلك اللغة العالمية التي إن أتقناها فسنشعر بأننا سندخل أي بلد في العالم من بابه الواسع. جلت في رحاب “الأوتليت” واشتريت الكثير من بضائعها، فالحسومات التي تراوح بين 30 في المئة ولغاية 70 في المئة ستدفع أياً منا لخوض تجربة التبضع من دون تردد، وبالأخص عند دخولي متجراً للكريستال التشيكي الشهير عالمياً الذي كان له حصة الأسد لصرف آلاف الكرونات التشيكية على قطعه البراقة. فتشيكيا لا تزال تحافظ على عملتها المحلية الكرونا التي يساوي كل 25 منها دولاراً أميركياً واحداً.
مئات المتبضعين كانوا متوزعين في أرجاء هذا المركز التجاري الضخم الذي هو الأكبر في جمهورية التشيك إذ يضم 100 متجر، وأكثر من 200 علامة تجارية لأرقى الماركات العالمية من بينها “أرماني”، “ديزل”، “كالفن كلاين”، “أديداس”، “تومي هيلفيغر”، “غانت”، “لاكوست”، “بولو رالف لورين” وغيرها الكثير. بإمكان الزوار الحصول على بطاقة VIP Day Pass التي تحمل رمزاً إلكترونياً لتزودكم بحسومات إضافية بقيمة 10 في المئة. نهاية يومي في “الأوتليت” كان في مركز المعلومات في الطبقة الأولى التي تتم فيها عملية تعبئة الاستمارات لاسترجاع الضريبة على المشتريات. فبخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان لا بد من تعبئة تلك الاستمارة لأنني مواطن بريطاني.

طريق القديسين
الشمس تتثاءب في الأفق لتعلن بزوغ يوم جديد في براغ، وكنت أتوق للعودة إلى الحي القديم المعروف باسم “ستارومستسكيه نامستي” Staroměstské náměstí الذي لم أرَ زحمة ناسه منذ زمن بعيد. لا شيء تغير في هذا المكان، فالمباني التاريخية لا تزال كما عرفتها، ملونة بالأزرق، والبني، والأصفر، وفي ظلالها تتمادى المطاعم، وتتعالى أصوات السياح الذين يتهافتون إلى ذلك المكان للوقوف أمام ساعة براغ الفلكية التي تعلو مبنى دار البلدية القديم. انتظرت مع غيري من السياح لمعاينة هذه الساعة التي ترقى إلى العصور الوسطى والتي تعد أقدم واحدة لا تزال تعمل حتى يومنا هذا، وللاستمتاع بتلك العروض التي تقدمها مع مرور كل ساعة. فعند اكتمال أي ساعة، تنفتح النافذتان في أعلى البرج، لتطل منهما تماثيل صغيرة تجسد تلامذة السيد المسيح، بالترافق مع تماثيل صغيرة أخرى مركزة على جانبي البرج تؤدي حركات مختلفة. وينتهي العرض بعد ثوانٍ معدودة بصياح تمثال يجسّد ديكاً مُذهّباً وضع في أعلى النافذتين، وعند ذلك تبدأ الساعة قرع أجراسها.
تابعت سيري باتجاه جسر “تشارلز” Charles Bridge، ولحقت بأسراب السياح التي تنطلق إليه كصفوف النمل، وفجأة وجدت نفسي في حضرة هذا المكان المعروف بـ”طريق القديسين”. سرت بخطى بطيئة على هذا الجسر المشيد فوق نهر “فلتافا” عام 1357 لربط الحي القديم بقلعة براغ التي تقف بكل هيبة ووقار على إحدى التلال المطلة على المدينة، ورحت أتامل تماثيله الثلاثين الدينية الموزعة على جانبيه والمنحوتة بعناية فائقة بين القرنين السابع عشر والثامن عشر. إن أكثر التماثيل قُرباً إلى قلوب التشيكيين هو تمثال القديس يوحنا نيبوميك. وتقول إحدى الأساطير إن يوحنا عُذب ورُمي في مياه “فلتافا” عام 1393 بأمر من ملك بوهيميا فنسيسلاس الرابع، بعدما رفض إعطاءه سر اعتراف زوجته الملكة صوفيا. ويُقال بأنه إذا وضع الشخص أصابعه على تمثال القديس يوحنا وعلى الصليب المنحوت على حديد الجسر الذي يشير إلى المكان الذي ألقي منه القديس في النهر، فإن جميع أمانيه ستتحقق. أما أكثر التماثيل قرباً إلى قلبي فكان تمثال يسوع المصلوب على الجلجلة، وبجواره العذراء مريم ومريم المجدلية. بتأمله غمرتني هالة من الروحانيات وقلت في قرارة نفسي من منا لم تصلبه الحياة مرة، أو مرتين، أو لربما أكثر؟ ومن منا لم يسر على طريق الجلجلة سواء لفترة طويلة أم قصيرة. تركت هذا الجسر بعجقة سياحه التي لا تهدأ، وبموسيقاه التي تصدح من قبل فناني الطرقات، لأتسلل في أحياء براغ القديمة قاصداً مكان آخر.

أرض الكريستال
لا يزور أحد براغ أو تشيكيا إلا ويسمع من أهله وأصدقائه السؤال التالي: هل اشتريت الكريستال؟ فأنا اشتريت من تلك القطع الأنيقة التي يقال أنها تجلب الطاقة، وأحببت خوض تجربة مشاهدة صناعتها عن كثب. فقررت الذهاب إلى مصانع شركة “موزير” Moser للكريستال في بلدة “كارلوفي فاري” الراقدة في غرب براغ. في الطريق مررت أمام مبنى “البيت الراقص” The Dancing House الذي يعتبر تحفة عالمية في مجال الهندسة المعمارية في وسط العاصمة. وأخبرني السائق أن ذلك المنزل ظل مدمراً لأكثر من 30 عاماً بعد الغارات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية. وكم هو غريب الشكل ذلك المنزل الذي يعكس صورة رجل وإمرأة يرقصان ويتمايلان وسط الشارع في انسجام تام، غير مبالين بدمار القصف والحرب، عاكسين روح الثورة المخملية السلمية التي شهدتها البلاد عام 1989، والتي أدت إلى سقوط النظام الشيوعي الذي سلط قبضته على البلاد وعلى العديد من بلدان أوروبا الشرقية لنحو أربعين عاماً، وانتهت بالتحول إلى النظام البرلماني.
تابعت السيارة شق طريقها وسط مناظر طبيعية غاية في الروعة والجمال لغاية وصولنا بعد ساعة ونصف الساعة إلى بلدة “كارلوفي فاري” المعروفة بينابيعها للمياه المعدنية الدافئة. في رحاب شركة “موزير” تعرفت أكثر الى تاريخها الذي بدأت تُكتب أولى فصوله في أحد أيام شتاء 1857 عندما قام رجل الأعمال التشيكي لودفيع موزير الذي كان بارعاً بمهنة الحفر على الزجاج بتأسيس مصنع صغير للحفر على الزجاجات الفارغة وتلميعها وهو بعمر الرابعة والعشرين. وسرعان ما راجت شهرة “موزير” ليصبح من أكبر مصانع الزجاج الخالي من الرصاص. وهذا مكنه من الحصول على العديد من الجوائز العالمية، ليحمل في ما بعد لقب “ملك الزجاح، زجاج الملوك” نظراً الى كون زبائن الشركة من الطبقة الأرستقراطية، سواء من أوروبا أم من مختلف بقاع العالم.
اقتفيت خطى “موزير” في الشركة وأطلقت العنان لروح الإبداع، فخضت تجربة صناعة الكريستال، وخلق قطع لا بأس بها، حتى ولو كانت خبرتي في تلك المهنة العريقة لا تتعدى البضع دقائق. وهذه التجربة الشيقة يمكن لأي منا خوضها في الشركة، وحمل ما أبدعته أياديكم معكم إلى دياركم.
النهار كان يشارف على نهايته، وكان لا بد لي من العودة إلى براغ بغية العودة إلى لندن. سلكنا الطريق نفسها، ومررنا أمام ميدان “وانسيسلاس” Wenceslas Square الذي يعتبر أحد أشهر وأهم ميادين العاصمة ونقطة مهمة في حياة التشيكيين. فمن هنا تبدأ التجمعات عند القيام بالتظاهرات أو الاحتفالات السنوية. أما مروري من أمامه فكان بهدف العودة إلى الفندق، الذي قبل عودتي إليه استوقفتني كنيسة صغيرة ملاصقة له. دخلتها، فأفرغت كل ما في جيبي من كرونات تشيكية لأشعل شمعتين عن نفوس موتانا. فجميعنا بحاجة للصلاة أحياءً كنا أو أمواتاً. ها أنا أعانق الفضاء من جديد، والطائرة تشق طريقها إلى لندن، وبدأت براغ ببيوتها الجميلة، وجسرها العتيق، وقلعتها المهيبة، ونهرها الهادئ، وتلك الكنيسة الصغيرة تختفي عن نظري شيئاً فشيئاً، وفي البال حنين وشوق للعودة إلى مدينة لا أفهم من لغة أهلها سوى كلمتين.