أطلّ تنظيم “داعش” برأسه وسط أجواء الغموض والتوتر التي تعيشها سوريا منذ سقوط نظام الأسد وتسلم “هيئة تحرير الشام” زمام السلطة في 8 كانون الأول (ديسمبر) الفائت، ليضفي على المشهد مزيداً من ظلال القلق والترقب. ولم يكن التنظيم الذي خرجت “جبهة النصرة” من رحمه قبل أن تشب عن الطوق وتتسمى “هيئة تحرير الشام”، خارج نطاق التوقعات في الأسابيع الماضية، إذ كان السؤال الذي يشغل بال مراقبين كثر هو كيف سوف تنعكس التطورات الأخيرة التي شهدتها سوريا على التنظيم؟ وهل سوف تشكل فرصة له لإعادة إحياء نشاطه باعتبار أن الواصلين إلى السلطة لهم جذور عميقة في الحالة الجهادية التي كان هو ذروة بلوغها، أم على العكس سوف يجعله ذلك من بين الخاسرين الذين سيضطرون إلى دفع أثمان غالية جراء صراعهم السابق مع “هيئة تحرير الشام؟”

ومن دون مقدمات، أعلنت الاستخبارات السورية إحباط محاولة تفجير أعدها “داعش” داخل مقام السيدة زينب في ضاحية العاصمة السورية، وفق ما أوردت وكالة الأنباء ‏السورية (سانا).‏ ونقلت الوكالة عن مصدر قوله: “جهاز ‏الاستخبارات العامة بالتعاون مع إدارة الأمن العام في ريف ‏دمشق، ينجح في إحباط محاولة لتنظيم داعش الإرهابي القيام ‏بتفجير داخل مقام السيدة زينب في محيط العاصمة دمشق”.‏ وأضاف: “أسفرت العملية عن اعتقال الأشخاص المتورطين ‏في هذه المحاولة لتنفيذ عمل إجرامي كبير يستهدف الشعب ‏السوري”. ‏

ويعني هذا الإعلان المفاجئ أن تنظيم “داعش”، بعد غياب سنوات طويلة عن دمشق وريفها، تمكن من العودة إليها بأسرع مما كان متوقعاً. بل هو لم يعد وحسب وإنما كان يعدّ العدّة لتنفيذ عملية ضخمة – وصفتها وكالة “سانا” بأنها تستهدف الشعب السوري – قد تذكر بالتفجير الذي استهدف ضريحي العسكريين (علي الهادي والحسن العسكري) في العراق عام 2007 وأدى في حينه إلى دوامة طويلة من الصراع الطائفي. فمقام السيدة زينب من المواقع المقدسة لدى الشيعة، وكانت حمايته الذريعة التي استندت إليها إيران لتدشين تدخلها العسكري في سوريا، لذلك يمكن تخيل ما هي التداعيات التي كان من الممكن أن تترتب على نجاح محاولة استهدافه من قبل “داعش”.
وإلى جانب التعقيدات الكثيرة التي تحيط بالمشهد السوري متأثراً بالتغيرات التي حصلت، وأهمها تدهور الوضع الأمني في العديد من المناطق ذات الانتماء الطائفي الأقلوي، يبدو أن عودة “داعش” للظهور وتفعيل نشاطه في مراكز المدن، لا سيما العاصمة ومحيطها، من شأنه أن يضفي مزيداً من التعقيد والتوتر على هذا المشهد، كما يمكن أن يفتح اتجاهات جديدة أمام احتمالات تطوره.
وقد تلعب العلاقة السابقة التي ربطت بين “داعش” و”جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام لاحقاً) دوراً كبيراً في تعزيز احتمال تفجر الصراع بين الطرفين، إذ إن أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) كان مبايعاً لتنظيم “داعش” بقيادة أبو بكر البغدادي، والأخير هو الذي أرسله إلى سوريا بصحبة سبعة رجال وبعض الأسلحة والأموال ليبدأ نشاطه فيها وذلك في آب (أغسطس) عام 2011. ثم حصل الخلاف بينهما في نيسان (إبريل) من عام 2013، وحينها انشق الجولاني عن “داعش” معلناً بيعته زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري. وبعد عام من الخلافات والمساعي لرأب الصدع، انفجر بين الطرفين صراع عسكري شامل، طرد بموجبه “داعش” الجبهة من ديرالزور معقلها الأخير آنذاك. ومنذ ذلك الحين في أواخر عام 2014 استوطنت “جبهة النصرة” في إدلب لتتخذها لاحقاً منطلقاً لعملية “ردع العدوان” التي مكنتها من إسقاط النظام السابق.
وللمفارقة فقد قتل أبو بكر البغدادي أواخر عام 2019 في باريشا في ريف إدلب، وهي منطقة كانت واقعة تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام”. وقد اتهم “داعش” الهيئة بمساعدة القوات الأميركية في تنفيذ عملية الانزال التي أودت بالبغدادي.
ولاحقاً، تمكن جهاز الأمن العام في إدلب، وهو الذراع الأمنية الضاربة لـ”هيئة تحرير الشام”، من ملاحقة الكثير من قيادات “داعش” وبعضهم من الصف الأول والثاني.
وقد أقر وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، قبل أيام، بأن “هيئة تحرير الشام” كانت تساعد في ملاحقة “داعش” وتنظيم “حراس الدين”، لكن المعلومات حول ذلك لم تكن تنشر بسبب حساسيتها.
وهكذا يبدو أن لدى “داعش” أكثر من سبب كي يفكر في الانتقام من “هيئة تحرير الشام” أو العمل على إفشال تجربتها في الحكم. وهذا يعزز المخاوف من أن يمنح وصول أحمد الشرع (الجولاني) إلى قيادة سوريا “داعش” دافعاً قوياً للعمل على إحياء نشاطه من باب التنافس مع خصم قديم، بخاصة أن قيادة “داعش” إبان اندلاع الخلاف بين الجولاني والبغدادي عام 2013 سارعت إلى وصف الأول بأنه “شيخ شريف سوريا”، في إشارة إلى شيخ شريف شيخ أحمد الذي أسس “المحاكم الإسلامية” في الصومال قبل أن يسيطر عليها ويصبح رئيساً للبلاد عام 2009، لينزع عنه بعد ذلك العباءة الإسلامية، وذلك في دلالة واضحة إلى أنها كانت تتوقع أن يسلك سبيل البراغماتية أو ما تسميه هي “النكوص والردة”، بحسب أدبياتها الجديدة.
وقد لا يقتصر الأمر على جذور الصراع وموجبات الانتقام بين “داعش” والهيئة، إذ من غير المستغرب أن تقوم بعض الدول التي لها مصلحة، وهي كثيرة، في تفعيل عمليات التخادم مع تنظيم “داعش” من أجل زعزعة الأمن في سوريا وإفشال تجربة الانتقال السياسي، وكذلك من أجل تمرير بعض الأجندات التي يجري تداولها بخصوص البلاد وأخطرها التقسيم.