في معارك ما قبل الاستقلال، كانت السوريات حاضرات. أسماء بعضهن دخلت التاريخ، مثل السيدة نازك العابد، التي منحها الملك فيصل لقب “جنرال” نظرًا إلى دورها في معركة ميسلون (1920)؛ ثم السيدة أليس قندلفت، أول سفيرة لسورية في منظمة الأمم المتحدة، فالسيدة سارة مؤيد العظم، قائدة التظاهرات المناهضة للاحتلال الفرنسي، والمؤتمر النسائي الشرقي الأول عام 1930 استضافته مدينة دمشق، وشاركت فيه أكثر من ثلاثمئة امرأة سورية.

في خمسينيات القرن الماضي نالت المرأة السورية حقَي الانتخاب والترشح. ونشاطها ازدهر في الستينيات. دخلت البرلمان في السبعينيات بنسَب لا بأس بها (12%). وخلال حكم حافظ الأسد انخرطت في مهن التعليم والطبابة والهندسة والقضاء والسلك الديبلوماسي والعسكري، وإن تفاوتت حظوظها بين عاصمة ومدن وريف. وهذا الدخول كان مسيّسًا، معه الديباجة المناسبة لتلك الأوقات؛ عن أن تحرر المرأة يمرّ بمواكبة الحداثة ضد “التخلف”. في الثمانينيات، كان الحجاب أوضح رموز هذا التخلف، فحملة رفعت الأسد على المحجبات خلال مذبحته ضد الإخوان المسلمين في حماة.

ولعلّ السيدة نجاح العطار هي صلة الوصل بين الأسد الأب والابن. تولت وزارة الثقافة خلال أكثر من عقدين في ظل الأول، حافظ. وعاد الثاني، بشار، وعيّنها نائبة له منذ عقدين تقريبًا، وحتى لحظة سقوطه.

والواقع أن السيدة نجاح العطار لم تكن ضمن المشهد. سيدة أخرى، بثينة شعبان، أكثر شبابًا منها، تولّت منصبًا وزاريًا أيضًا، وزارة المغتربين، خلال ستة أعوام. وبعد ذلك عُيِّنت “مستشارة سياسية إعلامية لبشار”، حتى سقوطه أيضًا.

ولكن امرأة أخرى غطت على جميعهن، ورفعت من شأن منصبها بصفتها زوجة الرئيس. من “سيدة أولى”، والدة بشار، مخفية عن الأنظار، إلى أخرى حاضرة بقوة في المشهد، أنيقة على الطريقة الأوروبية، متعلمة، مولودة في بريطانيا. فكانت جلسات التصوير والبوزات بنصائح من خبراء العلاقات العامة. و”سيدة أولى” ذات أذرع تطاول كل أنسجة المجتمع السوري، تحت هيئة سمتها “الأمانة السورية للتنمية”؛ تجول بفضلها على الأنشطة النسائية وغير النسائية وتصادر شرعيتها. بل وتتمدّد عربيًا وتعقد المؤتمرات، مثل “مؤتمر سيدات الأعمال في الشرق الأوسط”. ومن أهم إنجازاتها الإطاحة بابن خال زوجها بشار، الملياردير رامي مخلوف، وتفْليسه والاستيلاء على أمواله.

من يتذكر صفة “وردة الصحراء” التي لقبتها بها مجلة “فوغ” البريطانية الشائعة، والصور التي روّجتها عن أناقتها وتعليمها ومشاركتها وعائلتها “المودرن” إلخ…؟ كانت واجهة “حداثية” لا غاية لها سوى نيل رضى الغرب. وقد تصاعدت لهجتها أثناء الثورة السورية، وكان غرضها التبيان للعالم أجمع بأن هذه الثورة إنما تتم على يد “متخلفين”، “إرهابيين إسلاميين”، يخرجون من المساجد، ويذكرون الله كيفما اتفق.

 

النساء في إدلب تحت حكم جبهة أو هيئة تحرير الشام، كانت حظوظهن مختلفة عن تلك التي وقعت عليها الأخريات من النساء

في الجانب نصف المختبئ من المشهد، كانت الأنوار خافتة. الواجهة نساء، تتصدرها “وردة الصحراء”، ولكن في العمق الإبقاء على القوانين المكتوبة وغير المكتوبة المجحفة بحق النساء. وبموازاة هذين “الخطين”، تلك العلاقة “الأبوية” لبشار الأسد مع التنظيم النسائي الأكثر تديّنًا وغيبية، “أي القبيسيات”. والقبيسيات جماعة نسائية إسلامية دعوية منغلقة غامضة، تهتم بتربية وتعليم البنات. عام 2012، أي بعد عام على الثورة اجتمع بشار بهن، وتكلم عن “أزمة أخلاقية”. فمنحهن الواجهة الإعلامية اللازمة التي ستسمح له بتعيين إحدى عضوات هذا التنظيم، سلمى عياش، في منصب معاون وزير الأوقاف.
عشية الثورة، كانت ثمة مطالب نسائية، ترفعها منظماتها: أولها جرائم “الشرف”، أي قتل النساء، وزواج القاصرات، ومنح الجنسية السورية لأبناء السوريات المتزوجات من غير سوريين.

“كانت صور “وردة الصحراء” واجهة “حداثية” لا غاية لها سوى نيل رضى الغرب. وقد تصاعدت لهجتها أثناء الثورة السورية، وكان غرضها التبيان للعالم أجمع بأن هذه الثورة إنما تتم على يد “متخلفين”، “إرهابيين إسلاميين”، يخرجون من المساجد”

الثورة، كانت النساء في صفوفها. رزان زيتونة، منتهى سلطان الأطرش، مي سكاف؛ مشارب مختلفة، وأنشطة متنوعة. وجمهور من النساء تحت الخطر، مع غياب الرجال إما بالسجون أو القتال أو الهجرة أو الموت أو الغرق… خطر على كرامة الجسد، على أمنه، والمحافظة على النفس، وحماية العائلة من أخطار تفلّت الأمن والتشرد والجوع.

يجب أن تكتب قصة نساء مخيمات اللجوء في أرض الله الواسعة. كل حركة من حركتهن اليومية هي فعل البقاء على قيد الحياة: بين عمل مأجور زهيد الثمن، والحمل والتربية والحاجات اليومية والتربية والنقص بالحاجات الأساسية. هي المعيل الوحيد، هي الأب والأم في الآن عينه.

ولكن كان ثمة تفاوت أيضًا. فالنساء اللاتي يعشن في إدلب (تحديدًا في مناطق إدلب وريف حلب الشمالي) تحت حكم جبهة أو هيئة تحرير الشام، كانت حظوظهن مختلفة عن تلك التي وقعت عليها الأخريات من النساء: وفيها حرمان النساء من العمل في الصحافة وغيرها، والتحكّم بحركتهن، إلغاء كافة برامج تدريبهن، تجوال جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسؤالهن عن حجابهن، التفتيش في بيوتهن عما قد يحرف من الحجاب هذا، تشجيع الرجال على الزوجة الثانية والثالثة، عقاب لمن تستمع إلى أغنية أو تدخن سيجارة أو نرجيلة، منع التشخيص عند طبيب رجل، زواج القاصرات، الفصل بينها وبين الذكور في أي مكان، مسجد، مدرسة، صالون… لم تفرض الهيئة النقاب على النساء، لكنّ كل مناخها فرضه، بجانب تحريض رجال الدين على فرضه. وكأن الحجاب “العادي” هو منّة عليهن.

الآن الهيئة نفسها التي حكمت إدلب أصبحت في السلطة. وقد صدّر زعيمها أحمد الشرع كل الإشارات التي يمكن وصفها بـ”البراغماتية” الذكية. ولكن حتى الآن، لم يرسل إلا إشارات سلبية بخصوص النساء. وكأن تحوله أصاب جوانب عدة من تفكيره السياسي، إلا موضوع المرأة. وللمرء أن يتساءل، ومنذ اللحظة الأولى، ومنذ نجاحه بإسقاط الأسد، هل هو أكثر وعيا، أو حنكة، أو ذكاء من معاونيه، أو رجاله، أو حتى قاعدته، لكي تكون كل هذه الإشارات السلبية متراوحة بين التراجع عنها، أو التخفيف من حدّتها؟

خذْ مثلًا: تعيينه للسيدة عائشة الدبس مسؤولة عن ملف المرأة. وهو بالمناسبة التعيين الوحيد لامرأة. فكل المكلَّفين منه، وزراء ومدراء… كلهم من الرجال. والمقابلة الأولى التي أجرتها السيدة عائشة على الشاشة. وبدت فيها على مسافة وأحيانا تناقض بين أفكارها، وبين المكتسبات ولو القليلة التي نالتها السوريات قبيل سقوط الأسد. من دعوتها لتبني لشريعة، إلى “اختراع نموذج للمرأة السورية”، إلى رفضها للتعامل مع الجمعيات الأهلية التي لا توافق على فكرها… فكانت ردة فعل نسائية قوية، خفّت بعد ذلك، إثر تعيين سيدتين على رأس مؤسستين هامتين: السيدة ميساء صابرن للمصرف المركزي، والدكتورة ديانا الأسمر لمستشفى الأطفال الجامعي في دمشق…

لم تعد سورية منقبضة منكمشة. فائض سيولتها يفرض على السوريات معارك مديدة، معقَّدة، وربما ملغومة.