عزيزي الجولاني، من يخاف، لا يستطيع أن يكون حراً أو يدعو إلى الحرية؛ دع أثينا تعلمك بعض الأشياء. لا تخف من تقبيل فينوس، والركض مع ديانا. فقط حينها ستكون حراً…
في خطوة تم التراجع عنها بسرعة ونُشر ادّعاء” تصحيحها”، أزالت الحكومة المؤقتة/ الانتقالية في سوريا بقيادة “هيئة تحرير الشام”، مصطلح “الآلهة” وصور التماثيل من المناهج التعليمية. كالعادة، بأسلوب إسلامي- متطرف كلاسيكي، لا تزال التماثيل الإلهية التي شهدت على التاريخ القديم بأعينها الصخرية، تتعرض للملاحقة، بحجة الخوف من انحراف المؤمنين من “الواحد” إلى “العديد”.
في بداية أيام العمارة والفن الإسلامي، كانت بساطة التصميم التي تبنّاها وروّج لها الفكر الإسلامي، تقف على تناقض حاد مع الجماليات البيزنطية الغنية بالأيقونات، ومع سقوط القسطنطينية، بدأت ثورة عمرانية من داخل جدران الكنائس المزينة بصور الملائكة، وعيون القديسين الواسعة، وبابتسامة مريم الرقيقة، وجسد المسيح، كانت هذه الثورة تسعى إلى تحرير المعنى والرسالة من قيود الأيقونة.
هذا الابتعاد عن الإيقونية، لرصد الكينونة التي لا شكل لها، ولا جنس، ولا حدود، شكّل ثورة اخترقت الكاتدرائيات وألهمت بناء المساجد حولها. كان محور العمارة الإسلامية هو “اللامرئي”، الذي تحول إلى قوة جاذبية ومركز توازن أملى على الإسمنت كيف يلتوي حوله، وعلى الفسيفساء على أي فلك تلتف، وعلى الخط العربي إلى أي بعدٍ يمتد حتى يربط البداية والنهاية، والمعنى والوسيط، ويجسد وحدة كل شيء.
لم يتبنَ المسلمون لفظ “المحمديون” الذي أُطلق عليهم في أوروبا، ولم تُبْنَ أية تماثيل لأي نبي أو رسول في العالم الإسلامي، لا بسبب التحريم فقط، بل خشية أسر الـ”معنى” من جديد ضمن “شكل”، هذا الخوف سرعان ما تحوّل إلى هاجس وبارانويا من أي تمثال أو رمز.
ألهم الإسلام بعض أعظم الإنجازات المعمارية في التاريخ، لم تُبنَ هذه الهياكل دائماً بسلام، ولم تتماشَ دائماً مع فكرة “الواحد”، أسر الخوف حرية الـ”معنى”، ودُمّرت تماثيل ديانات أخرى، اعتُدي على معابد، وأُحرِقَت كنائس. في الوقت ذاته، رُفعت صور القادة وأسماء الصحابة والأئمة على جدران المساجد، كإعلانات غير مرغوب فيها لأولئك الباحثين عن الهدوء والسكون. ما بدأ كجهد لتحرير المعنى من الأيقونة، انتهى به المطاف إلى حبسه داخل الخوف والسلطة والطمع، والهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعتادة.
إقرأوا أيضاً:
شهر على سقوط طاغية الشام…ذكريات من يوم هروب الأسد
وأخيراً سقط الأسد… فهل نبدأ من الصفر مرة أخرى؟
قال كارل يونغ إن اكتشاف علم النفس كآخر العلوم التجريبية ليس مفاجئاً، لأن البشرية استغرقت وقتاً طويلاً لتوثيق العالم الداخلي للإنسان. لقد كانت الهياكل الاجتماعية والشخصية والسياسية دائماً أكثر الأيقونات صعوبة للكسر، والمتاهات الأكثر تعقيداً التي يُبحث فيها عن المعنى، إن كان هناك أي معنى في داخلها على الإطلاق.
تطوّرت الأطر التي يحتفظ بها المعنى، وتبدو معابد اليوم مثل البنوك والشركات. في عالم ممتلئ بالمجهول، من الطبيعي أن نميل إلى البقاء قريبين من السياج، حذرين من السقوط وكسر أعناقنا. كان الهدف من تحرير المعنى هو الاعتراف بأن هذه الهياكل مُصمَّمة لتكون سياجات، لا وجهات. المعنى حُر فقط عندما لا يكون مقيداً، ولا يكون الإيمان أو التمسك به قصرياً. المعنى حُر، عندما يمكن أن يتجسد كتمثال إلهة، أو كفراشة، أو كدائرة، أو كأي شكل يفي بالوظيفة. المعنى حُر، عندما تتلاحم الطبقات الاقتصادية بحرية، وتلتقي المجتمعات المختلفة بحب، ويُنتَخب الرؤساء بنزاهة.
المعنى يكون حراً، عندما لا يخشى الرجل من المرأة (لاحظ طالبان !) أولئك الذين في أفغانستان يدركون جيداً كيفية بناء أكثر السجون إحكاماً، هؤلاء الإسلامويون أمروا بغلق جميع النوافذ في الغرف التي تشغلها النساء، ليأسروهن ليس فقط في منازلهن، وضمن “عائلتهن” وبدورهن الاجتماعي، بل في ظل الرجل البحت.
الرجل أيضاً أيقونة، على مر التاريخ، بقي الرمز الأبرز للقمع والخوف والتدمير، الرجل يدمر التماثيل كي لا تدمره التماثيل. بالمثل، فإن حذف “هيئة تحرير الشام” للآلهة القديمة، وتجريدها من صورها ومكانها الصحيح في التاريخ باعتبارها جزءاً أساسياً من تطور المعنى والأنوثة أيضاً، هو دعوة خطيرة إلى الحرب ضد الحقيقة والمساواة.
لماذا يخاف الإسلامويون من الآلهة القديمة؟ بالتأكيد هم يعلمون أن أيقوناتهم كرجال، التي بُنيَت على ظهور النساء والفئات المهمشة، لا يمكن أن تصمد أمام اختبار الزمن بالطريقة التي صمدت بها ما تمثله الآلهة الأخرى. الجولاني لن يستطيع منافسة أثينا، إلهة الحكمة؛ لن يتمكن أبداً من النظر في عيون فينوس، إلهة الجمال، والإعجاب بها من دون أن يمتلكها ويأسرها، ولن يصطاد أفضل من ديانا، إلهة الصيد. عزيزي الجولاني، من يخاف، لا يستطيع أن يكون حراً أو يدعو إلى الحرية؛ دع أثينا تعلمك بعض الأشياء. لا تخف من تقبيل فينوس، والركض مع ديانا. فقط حينها ستكون حراً…