حين وقعَ صامويل دو، حاكم ليبيريا، بين أيدي مقاتلي برينس جونسون في العام 1990، سأله مُعذِّبوه والمحققون، بمن فيه برينس جونسون نفسه، سؤالاً واحداً: «أين هي الأموال؟» التي نهبها من بلده خلال فترة حكمه، وقد قضى بين أيديهم قبل أن يعترف.
لم تُتَح لأحمد الشرع فرصة إلقاء القبض على بشار الأسد، ولا سؤاله عن مصير الأموال المنهوبة، وإن كان البحث عن الأموال السورية قد يشغل الحكومة المؤقتة والهيئات الحقوقية إلى مرحلة ما. ولكن، خلال المرحلة المقبلة، سيبقى سؤالان يترددان طوال الوقت في سوريا: من أين ستأتي الأموال؟ وإلى أين ستذهب؟
استلمَ الشرع بلداً مفلساً نتيجة سوء الإدارة والحرب الطويلة والنهب المنظم والعشوائية في اتخاذ القرارات الاقتصادية والسياسية، كما ساهمت العقوبات الأميركية والدولية في تدمير اقتصاده. ولم ينسَ بشار الأسد وعصابته الحاكمة (بالمعنى السياسي) تنظيف ما أمكنهم تنظيفه من موجودات الخزائن العامة، قبل المغادرة السريعة.
لكن، وبغض النظر عمّا سبق، سيتجمّع ملايين السوريين أمام باب أحمد الشرع ليسألوه السؤال نفسه: أين الأموال؟
عُمّال وصناعيون، مُقدِّمو خدمات، أصحاب الياقات البيضاء، مصرفيون، مستثمرون محليون وأجانب، وموظفون ومتقاعدون، فلاحون ورجال دين، علويون ودروز ومسيحيون وسُنّة، مُثرون عبر الفساد في النظام القديم، أثرياء استثمروا في الخارج يسعون لرفع نسبة أرباحهم عبر الاستثمار في سوريا، عاطلون عن العمل؛ كلهم سيطرقون أبواب احمد الشرع بالسؤال نفسه: أين الأموال؟ وعلى جواب الشرع والحكومة المؤقتة سيتقرر مصير سوريا، هل هي سوريا جديدة؟ أم أننا سنشهد إعادة تدوير لسوريا الأسد اقتصادياً، واجتماعياً وسياسياً على حد سواء.
العقد الأخير من تاريخ سوريا كان أكثر غرابة من كل تاريخها السابق، فهي لم تَعُد تسيرُ اقتصادياً وفق آليات مختلطة من اقتصاد السوق والليبرالية الاحتكارية، أو تحرير السلع واحتكار الأعمال والقمع السياسي والاجتماعي (وهو ما يتناقض مع مفهوم الليبرالية نفسه)، ولا وفق مزيج من تقديمات للفلاحين والمواطنين (كانت تسمى اشتراكية بعثية) وتوحُّش رأسمالي مديني. إذ لم تتمكن العصابة الحاكمة، تحت ضغط تمويل الحرب وتمويل الأزلام في نظام زبائني، من الحفاظ على تعدد مصادر الثروة وتنوّع القطاعات من الزراعة إلى الصناعة والسياحة والخدمات، والاستفادة من التحويلات المالية للمغتربين خاصة في الخليج، والعمالة في لبنان، وإنتاجية القطاع العام المتضخم، وريع النفط والمواد الخام، كما في العقود الماضية. كما لم تتمكن من سدّ حاجاتها عبر الوسائل الاقتصادية المشروعة، بل انتقلت هذه العصابة إلى الاعتماد على المساعدات وتجارات الحروب غير الشرعية وبالأخص مُخدِّر الكبتاغون، الذي تَحوَّلَ إلى مصدر تمويل وإثراء، بينما تقلَّصَ حجم الكتلة البشرية المسيطرة على الثروة في البلاد إلى بضعة تجار حرب ومستثمرين احتكاريين وتجار مخدرات – أمراء حرب، ومنتفعين من التمويل الإقليمي للحرب، وباتت العصابة تنهش بعض أفرادها أنفسهم لتمول حربها والدولة والحفاظ على استمرار إثراء أفرادها الآخرين.
لم يشذَّ المشهد كثيراً في مناطق سيطرة فصائل المعارضة عنه في مناطق النظام السابق، وإن كانت الأولى لم تُعرَف بانفلات التجارات غير الشرعية من عقالها أو غزوها للأسواق العالمية بالمخدرات، إلا أنها أيضاً لم تتمكن في ظروف الحرب من إطلاق عجلة إنتاج اقتصادي متوازنة، ولا استحصلت على واردات من قطاعات اقتصادية سمحت بتكوين فئات مالية واقتصادية مستقرة.
ومع صدور تصريحات عن وزراء في الحكومة المؤقتة، والبدء بتخفيف العقوبات الأميركية عن سوريا لمدة ستة أشهر (تحت المراقبة)، يبدو من الممكن اليوم طرحُ المزيد من الأسئلة عن مستقبل المال والاقتصاد في سوريا، من زاوية علاقته بالسياسة وتكوين السلطة السورية الجديدة، كما من زاوية علاقة السوريين بالسلطة.
ستأتي الأموال مؤقتاً من المساعدات العربية، هذا ما بات واضحاً من مساعي الحكومة المؤقتة للانفتاح. وتأمل هذه الحكومة كما يبدو في تمويل دول الخليج بشكل خاص لإعادة الإعمار، وذلك ما أن تُرفَعَ العقوبات الغربية عن سوريا، ويتم حلّ هيئة تحرير الشام المُصنَّفة إرهابية حتى اللحظة.
لكن لتسيير شؤون الدولة في اللحظة الراهنة، لا بدَّ من الاعتماد على بقايا القطاعات الاقتصادية القائمة، مع إلغاء قطاع المخدرات والتجارات غير الشرعية، إضافة إلى الاعتماد على التحويلات المالية من المغتربين واللاجئين في كل أنحاء العالم، التي تأخذ أيضاً مساحة كبيرة من الاهتمام باعتبارها ستنقذ المواطن السوري من البقاء تحت خط الفقر، حيث يعيش عملياً أكثر من 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر العالمي.
ما تُعلن عنه الحكومة من خطوات يقول إن الخيار الاقتصادي هو الليبرالية أو النيوليبرالية، بمعنى ترك السوق وتحرير الأسعار. هذا ما صرَّحَ به رئيس غرفة تجارة دمشق باسل حموي نقلاً عن مسؤولين حكوميين، عندما تحدّثَ عن اعتماد السوق الحرة ودمج البلد بالاقتصاد العالمي. وهو ما قاله أيضاً بشكل غامض وزير الاقتصاد الجديد باسل عبد الحنان، حين أعلن الانتقال من اقتصاد اشتراكي إلى «اقتصاد السوق الحر الذي يحترم الشريعة الإسلامية»، وهو قولٌ يترافق مع الإعلان عن رفع الدعم عن الرغيف وغيره من القرارات.
إلا أن الليبرالية الاقتصادية لا تأتي بقرار سياسي فقط، ولا تأتي وحدها، بل تسير يداً بيد مع رفاقها، إذ يكون معها ليبرالية اجتماعية، أو بالحد الأدنى اعترافٌ بالحريات الفردية وتكريسها عبر القوانين، وسيكون معها أيضا حريات سياسية تمثل ليس فقط الجماعات و«المكونات» السورية، بل أيضاً المصالح المالية لكل الفئات، وتصطحب معها أيضاً رفيقتها الأعزّ؛ التمثيل السياسي للفئات الاجتماعية والسياسية.
أي أن التحرر الاقتصادي سيجلب معه إلى باب أحمد الشرع مجموعة أخرى ستسأله أسئلة أصعب من سؤال: أين هي الأموال؟ إذ ستسأل: أين حصتي في السلطة السياسية؟ وأين تمثيلي في البلديات وفي البرلمان؟ ولاحقاً ستطالبُ هذه الحريات مُجتمِعة بكرسي الرئاسة وحكومة أكثرية جديدة، أكثرية مالية وإنتاجية واجتماعية.
أثبتت تجربة ليبرالية بشار، أو ما عُرِفَ بـ«لبرلة سوريا» التي بدأت بالمناسبة في عهد حافظ الأسد أوائل التسعينيات وتوقفت لاحقاً، أن تحرير الاقتصاد والديكتاتورية السياسية معاً يُشكِّلان وصفة مثالية للدخول في الخراب السياسي والاقتصادي على حد سواء، وأن هذه الطريق هي أسرع المعابر إلى الاحتكار الاقتصادي للعصابة الحاكمة وحاشيتها.
فهل ستُعيد السلطة الجديدة في سوريا الصيغة نفسها من تحرير الأسواق وإعادة احتكارها عبر الفئة الحاكمة، بالتعاون مع بعض البرجوازيات التي استطاعت البقاء على قيد الحياة عبر الخضوع والمشاركة في نظام بشار الأسد؟ أم أن السلطة الجديدة قادرة على إطلاق عملية سياسية واسعة، تسمح بالتعبير عن مصالح مختلفة لهيئات مالية وصناعية وفلّاحية وتجارية وخدمية، وبتمثيل هذه الفئات في السلطات الحاكمة؟ وكيف ستقوم السلطة الحالية باجتراح تسوية بين المتطلبات والضغط الداخلي من جهة، وبين المطالب الخارجية من جهة أخرى سواء جاءت من تركيا أم من الغرب؟
إذا ما قررت السلطة الحالية إطلاق عجلة الاقتصاد والسماح بانعكاس المصالح المالية في السياسة، فأين سيكون موقع أمراء الحرب من هذه المعادلة؟ إذ يملك هؤلاء اليوم ميزات مالية ونفوذاً بشرياً كبيرين، وثقلاً عسكرياً يبدو أنهم لن يتخلوا عنه ببساطة لمصلحة الدولة التي يعتبرونها تَضخُّماً لحالة «هيئة تحرير الشام الإدلبية». ما هي الحصة التي ستَعِدُهُم بها السلطات الجديدة مقابل التخلي عن سلاحهم والاندماج في الدولة؟ وكيف يمكن ترجمة التطمينات للأقليات هنا؟ ما هي حصص الأقليات في الإنتاج الاقتصادي والقطاعات والتوظيفات؟ وكذلك في التلزيمات الكبرى في مرحلة إعادة الإعمار؟ وكيف سيتمثَّلُ رأس المال الذي تحوزه وراكمته هذه الأقليات في السلطة السياسية؟ ومن سيُعبِّر عن الكتل المالية للطوائف؟
هل سيعتمد النظام الجديد صيغة «المكونات السورية» التي تتردد كل يوم في الخطب ووسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي؟ وبالتالي سيعمل على إعطاء الحصص المالية والتجارية والاقتصادية بناء على الانتماءات المذهبية لكل جزء من سوريا؟ وإذا كان الأمر كذلك، بمعنى أن المسيحيين سيٍحصلون على حصة في الاقتصاد بناء على حجمهم العددي، وينسحب الأمر على باقي الطوائف، فمن سيمثل السُنّة؟ تجار إدلب أم تجار المدن الرئيسية المتعاونون مع النظام السابق؟ أم الأرياف حول المدن الكبرى؟ تجار منتمون إلى هيئة تحرير الشام أم إلى فصائل أخرى؟ وأين حصة درعا (السنّية) وجنوب سوريا الذي يعيش توتراً سياسياً اليوم مع الحكومة المؤقتة، وما هي حصة دير الزور (السنّية) في الأعمال الكبرى؟ وما هو مصير الأكراد، هل سيُحسَبون بناءً على طوائفهم، أم أن حسابهم سيكون بناءً على الانتماء القومي أو حاجات وقدرات مناطق وجودهم؟
أمام السلطة الجديدة مروحة من الخيارات السياسية – الاقتصادية، طرفاها: توسيع قاعدة المستفيدين من النظام الجديد عبر الخدمات الاجتماعية والمالية والاقتصادية، وبالتالي مواجهة تَطوُّرِ قوى سياسية تُمثُّل هذه الفئات في السلطة ومن ثم الخضوع لـ«ديمقراطية» ستُقلِّص سلطة الشرع ورفاقه حتماً؛ أو العودة إلى خيار بشار الأسد في تضييق قاعدة المستفيدين من النظام السياسي- الاقتصادي واحتكار السلطة، وبالتالي مواجهة قوى جاهزة عملياً للعودة إلى دائرة العنف للحصول على مطالبها.
في النظرة الأخيرة، لا يبدو أن السلطة الجديدة الآتية من هيئة تحرير الشام هي سلطة مطلقة، أو حتى قادرة على الحكم بمفردها، حتى لو استعانت بمؤتمر وطني شكلي يُعطيها شرعية تمثيلية ما، ولا هي قادرة على تجاوز الفئات الاجتماعية والاقتصادية عبر اللعب في ملعب «المكونات» الطائفية والإثنية السورية، وغضِّ النظر عن دورة الإنتاج وما تتطلبه للوصول إلى إقامة حكم مستقر نسبياً في البلاد. على إجابات الحكومة الجديدة يتوقف مستقبل سوريا؛ هل هي سوريا الجديدة؟ أم هي سوريا الغارقة في الصراعات من جديد؟
مقالات مشابهة