ليوناردو دا فينشي في لحظاته الأخيرة محاطا بفرانسوا الأول وحاشيته (موقع الفنان)

حتى إن كانت لوحة الرسام الفرنسي فرانسوا غيوم ميناجو التي تعود لعام 1781 وتمثل مشهداً بالغ التأثير والقوة للحظات الأخيرة من حياة رسام النهضة الإيطالية الكبير دافنشي  وهو يتلقى الوداع الأخير من مستضيفه الملك الفرنسي فرانسوا الأول الذي ينحني عاطفاً عليه بحزن مطلق، رسمت بعد موت الفنان الكبير بأكثر من قرنين ونصف من الزمن، فإنها في حقيقة أمرها تنتمي إلى ما يمكننا أن نسميه بلغة عصرنا “الأخبار الكاذبة” حتى إن اعتمدت زمناً طويلاً بوصفها تصور حدثاً تاريخياً حقيقياً.

والحقيقة أن كل ما في هذه اللوحة يمكن أن يعتبر صحيحاً باستثناء أن اللقاء والوداع اللذين تصورهما لم يكن ممكناً لهما أن يحدثا في تلك اللحظة بين الملك الفرنسي الذي كان يكن للفنان الكبير المقيم منذ حين في بلاده وفي ضيافته احتراماً وحباً كبيرين لا شك في أنه ما كان من شأنه ألا يكون راضياً عن تعبير اللوحة عنهما.

ففي اللحظة التي أسلم فيها دا فينشي الروح كان فرانسوا الأول كما تفيد المصادر والسجلات التاريخية يشرف على ولادة ابنه الأول على بعد مئات الكيلومترات من المنطقة التي يقع فيها القصر الملكي الريفي الذي خصصه الملك لإقامة ضيفه المبجل في أمبرواز.

وداع ملكي

هكذا إذاً يأتي الواقع التاريخي لينقل الحدث الذي تمثله اللوحة من خانة تصوير حدث تاريخي، إلى خانة التعبير عن كيف كان يمكن أن يكون الوداع الملكي الأخير لفنان من طينة صاحب “الجوكوندا” والعشاء الاخيدر” وغيرهما من تلك اللوحات التي علمت الجانب التشكيلي من حياة ومسار دا فينشي الذي عرف أيضاً كمخترع ونحات ومهندس زراعي ومهندس مدن وخبير في شق القنوات وتجفيف المستنقعات وكاتب نظريات رائعة في العلوم والاختراعات كافة.

ولئن كانت سمعة دا فينشي الأساسية قامت على أية حال على تلك اللوحات القليلة التي تمكن من إنجازها خلال حياته لكنه ترك بعضها من دون إنجاز، فإنها قامت أيضاً على عدد من المشاريع العمرانية والطوبوغرافية الأخرى التي تركها كتخطيطات على الورق مع شروحات مدهشة تشكل اليوم ثروة متحفية هائلة حتى إن كانت لم تصل أبدا إلى حيز التنفيذ.

ومن بين تلك المشاريع واحد لا شك في أن سكان باريس من شأنهم أن يعيشوا مطمئنين، إذ يتناهى إلى علمهم بين الحين والآخر كيف أن موت الفنان والعالم الكبير عام 1519 أنقذ مدينتهم من مصير كان دا فينشي يخطط له وخلاصته خلق منطقة عمرانية كبيرة وضع مخططات كبرى لإنشائها على بعد مئات الكيلومترات من العاصمة الفرنسية باريس ، لتحل مكانها عاصمة الملك فرانسوا الأول!

قد يبدو هذا الأمر قابلاً لأن يصدق وربما لا يبدو كذلك، لكن الفنان الكبير الذي أقام في فرنسا خلال الأعوام الأربعة الأخيرة من حياته فكر بالأمر فعلاً، بل رسم الخرائط واشتغل على دراسات وكله اقتناع بأنها ستكون مقنعة للملك الذي عامله مستضيفاً إياه في بلاده معاملة لم يحظَ بما يماثلها أي فنان مبدع من جانب حاكم كبير على مدى التاريخ كله.

 

ونعرف أن حلم الارتباط بحاكم متنور عرف كيف يداعب خيال كل مبدع من مبدعي العالم وفي الأقل منذ مساعي أفلاطون لجعل نفسه مستشاراً لديون الصقلي، مروراً بتقارب ابن خلدون مع تيمورلنك، وصولاً إلى ارتباط فاغنر بلودفيغ البافاري، غير أن دا فينشي ربما كان الأكثر هرولة نحو هذا الحلم رابطاً إياه بأن يتاح له في بلاط فرانسوا الأول الفرنسي أن يجسده مشروعاً عمرانياً هائل الحجم لا يقل عن خلق عاصمة جديدة للبلاد الفرنسية.

حلم فنان كبير

إذاً منذ وصوله ضيفاً كبيراً إلى فرنسا كان ثمة ذلك الحلم يداعب مخيلة الفنان، حلم أن يجعل من منطقة روموراتين، وهي مدينة صغيرة تقع في منطقة سولوني وسط فرنسا عاصمة جديدة. ويبدو أن الملك نفسه وأمه لويز دي سافواي كانا يوحيان للفنان بتشجيعهما له في التخطيط لمشروعه، بخاصة أن الأم نفسها كانت تملك معظم الأراضي الشاسعة في تلك المنطقة، مما قد يعني أنها لو يتحقق المشروع ستصبح أغنى أغنياء هذا البلد.

ومنذ البداية أدرك دا فينشي أن معظم أراضي المنطقة تقع في مناطق مليئة بالمستنقعات التي سينبغي الشروع في تجفيفها قبل أي مسعى آخر. وذاك كان بالتأكيد مجال عمل آخر لا يبدو الفنان الراحل غريباً عنه هو الذي كان قد اكتسب سمعة كبيرة في الأعمال الهيدروليكية من خلال اشتغاله على مد القنوات وتجفيف الأراضي في ميلانو.

أما بالنسبة إلى المشروع الفرنسي الذي كان من شأنه أن يكون أضخم كثيراً من مشروع ميلانو، فإنه كان ينطلق من الشروع في تشييد قصر ملكي هائل يعتبر قاعدة جديدة للملك وأساساً تنطلق منه المدينة الجديدة في كل الاتجاهات. ويقول ملف حول دا فينشي نشرته أخيراً مطبوعة “جيو إيستوار” الفرنسية مخصص لعصر النهضة الإيطالية أن الباحث في تاريخ نشاطات دا فينشي، كارلو بدريتي عثر في ملفات واحد من السجلات التاريخية على تخطيط من وضع الفنان نفسه يتعلق بتشييد ذلك القصر.

ويتحدث عن بناء لا مثيل له في ذلك الزمن يقوم فوق أراضي جزيرة نهرية تقع بين رافدين لنهر السولدور وتمتد من كل جانب من جوانبها إلى طرف من أطراف المدينة.

قيد التنفيذ

وضمن التخطيطات التي عثر عليها بدريتي ملحقة بمخطط القصر جملة من مبانٍ واسطبلات وثكنات تتمدد تدريجاً حتى تختلط بالمدينة، مستغلة في تمددها كل المجاري المائية الممكنة والموجودة لتقام بين كل واحد منها والآخر مبانٍ إضافية بل أحياء بكاملها بعد التمكن من تجفيف مياه المستنقعات بصورة تدريجية عبر تحويل مجرى نهر الشير الذي يمر هناك لجعله يصب في نهر السولدور، لمد مجاري النهرين عبر طرقات وقنوات مائية جديدة يكون الهدف منها مركزة التجارة وإنعاش تلك المنطقة التي تقوم وسط فرنسا تماماً تقريباً بين نهري الساوون والرون، مما يخلق كينونة اقتصادية يمكنها أن تحل محل باريس، فتكون النتيجة أن تفقد هذه الأخيرة مكانتها لمصلحة عاصمة اقتصادية وزراعية بل حتى صناعية جديدة.

مهما يكن من أمر فلا بد من أن نشير هنا إلى أن تحويل روموراتين إلى عاصمة جديدة لفرنسا لم يخطط ليبقى حبراً على ورق، بل على العكس، إذ إن بدريتي يؤكد أن الأشغال التي خطط لها دا فينشي انطلقت بالفعل بين عامي 1516 و1518، بل إن السجلات البلدية في المنطقة تتحدث عن الأمر ولو بشيء من المواربة وذلك من خلال ما تشير إليه من فرض ضرائب جديدة على الملح من أجل تمويل تقسيم الأراضي والاستحواذ على ما هو لازم منها لتجفيفه.

والآن، إذا كان هذا كله قد برز من جديد فيبقى سؤال، لماذا إذاً طوي المشروع وغاب في أدراج النسيان؟ الجواب الذي يقدمه الباحثون اليوم وعلى رأسهم بدريتي هو أن موت دا فينشي المباغت تقريباً في الثاني من مايو (أيار) 1519 كان السبب الثانوي لتوقف المشروع، لكن الأهم منه الكلفة المالية الباهظة التي تبين أن المشروع بأسره سيحتاج إليها.

بل سرقوه حتى!

ومن هنا ربما يكون فرانسوا الأول اكتفى بعد موت دا فينشي بتحويل مشروع كان يشتغل هو ومساعدوه عليه لبناء قصر شامبور القائم بالفعل حتى اليوم، إلى ما يشبه “ميني روموراتين” أي كمركز ثانوي للحكم من دون أن يشترط وجوده تغيير عاصمة البلاد، لذا يمكن اعتبار بعض ما في تجديدات قصر شامبور تكريماً مبطناً لذكرى ذلك الضيف الكبير الذي إذا استثنينا وجود لوحته “الموناليزا” في متحف اللوفر بوصفها “سوبر ستار” فيه، لا يوجد أي أثر إبداعي، لا سيما عمراني لتلك الأعوام الأربعة التي عاشها في بلاد الفرنسيين، أللّهم إلا بعض التأثيرات التي تعزى إليه في عدد من المشاريع العمرانية التي لا تحمل اسمه صراحة، لكنها من إنجاز عمرانيين كبار تأثروا به بصورة أو بأخرى، ومن أبرزها برج في قلعة مونتوارون بناه جاك الثاني توربين في مدينة فيينا الفرنسية وتبين أخيراً أن هندسته تكاد تكون منسوخة تماماً عن مخطط لبناء قلعة وضعه دا فينشي وعثر عليه في سجل معنون بـ”مدريد”.