قرر أن يحدث صدمة من نوع آخر تستهدف العملية السياسية ومنافسيه في البيت الشيعي والإطار التنسيقي
لم يتبقَّ على موعد انتخابات المحافظات في العراق سوى أقل من 15 يوماً، فالموعد المقرر لإجرائها هو الـ18 من ديسمبر (كانون الأول) المقبل، مما يعني أنه من المفترض أن تكون الحكومة العراقية والأجهزة المعنية في المفوضية المستقلة للانتخابات والأجهزة الأمنية والإدارية ومعها القوى السياسية من كل المكونات أنهت استعداداتها لإجراء هذه الانتخابات في موعدها المقرر من دون أية عوائق أو عراقيل.
وقبل الصدمة التي أحدثها قرار المحكمة الاتحادية العليا بإنهاء عضوية رئيس البرلمان الحلبوسي في مجلس النواب، كان الصدر قرر أن يحدث صدمة من نوع آخر تستهدف العملية السياسية وخصومه في البيت الشيعي و”الإطار التنسيقي”، من خلال الدعوة التي وجهها إلى أنصاره والتيار الصدري لمقاطعة الانتخابات بجميع أشكالها، بالترشح ولو منفردين ومقاطعة صناديق الاقتراع، وما لم يكشف عنه صراحة هو تعطيل ومنع الآخرين من استكمال حملاتهم الانتخابية وتعطيلها.
درجة متقدمة من التصعيد
إن دعوة الصدر إلى أنصاره لم تقف عند حدود المقاطعة، بل توسعت لإعلان البراءة من أي منتسب لتياره إذا ما شارك منفرداً في هذه الانتخابات، وذهب إلى درجة متقدمة من التصعيد عندما ترك الحرية لأنصاره في استهداف المرشحين عن القوى السياسة الأخرى وتعطيل حملاتهم الانتخابية ومنعهم من نشر إعلاناتهم ودعاياتهم الانتخابية، وهي الدعوة التي لم يكشف عنها صراحة في نص الرسالة (الكصكوصة) التي خاطب بها أنصاره الذي شكّل نهاية الرهانات لدى القوى السياسية على إمكان حصول ليونة في موقف الصدر من العملية السياسية، وأن يدفع أنصاره إلى المشاركة تحت مسميات مختلفة ومتعددة من دون أن يتحمل تياره السياسي أعباء هذه المشاركة مباشرة، لذا التمهيد التدريجي لعودته إلى الحياة السياسية.
إلا أن ما جاء في هذه الدعوة والتعبير عن الفرح الذي سيناله الصدر إذا ما التزم مناصروه وتياره قرار المقاطعة، أحرج الحكومة وأجهزتها الأمنية التي تتخوف من أي تصعيد في هذه المرحلة قد يقود أو يؤدي إلى حصول توترات في الشارع المحتقن، وما يعنيه ذلك من إمكان أن تجد نفسها في مواجهة مع الشارع الصدري، إذا ما أرادت تنفيذ مهمتها الأساس في حفظ الأمن والحفاظ على العملية الديمقراطية والانتخابية ومنع تخريبها.
خطوة الصدر قد تكون مشابهة للخطوات السابقة التي لجأ إليها خلال أزمة تشكيل الحكومة العام الماضي، وما انتهت إليه من نتائج سمحت لخصومه في الإطار التنسيقي بتفكيك تحالف “إنقاذ وطن” الأخطر الذي تشكل من الثلاثي الكردي – بارزاني والسني – الحلبوسي والصدر – الشيعي، أولاً من خلال محاصرة الصدر وسوقه لاتخاذ قرار الاعتزال بعد عجزه عن تجاوز العراقيل التي وضعت أمامه، والانزلاق إلى الدم في المواجهات التي حصلت على بوابات المنطقة الخضراء، في حين استطاع “الإطار التنسيقي” تطويق الطموحات الكردية وتطويعها كمقدمة لتفريغها من التحديات التي شكلتها، وأخيراً إخراج الحلبوسي من المعادلة من خلال الهدية التي قدمتها لهم المحكمة الاتحادية في قرارها بإسقاط عضوية رئيس البرلمان النيابية.
المعادلة السياسية
الصدر الذي قرأ متأخراً المعادلة السياسية التي يسعى “الإطار التنسيقي” إلى إرسائها وفرضها داخل المكون الشيعي، وأن الأمور تسير باتجاه محاصرة وإخراج الحلبوسي آخر مصادر التهديد والابتزاز والشراكة من المعادلة، قرأ أيضاً الخطر الكامن في انتخابات مجالس المحافظات وما سينتج منها من تكريس سلطة أحزاب وفصائل “الإطار التنسيقي” وهيمنتها على تمثيل المكون الشيعي في محافظات الوسط والجنوب، وأن شرعية الانتخابات لن تكون رهينة نسبة المشاركة لأن القانون العراقي لا يأخذ النسب في الاعتبار في تحديد شرعية التمثيل والنتائج من عدمها، وأن مشاركة شعبية بنسبة واحد في المئة، بحسب تعبير رئيس “ائتلاف دولة القانون” رئيس الوزراء الأسبق نوري المالي، تكفي لحسم النتائج وتفتح الطريق أمام أحزاب الإطار للإمساك بهذه المجالس، وما تعنيه من التحكم بالمشاريع والخدمات في المحافظات وتوظيفها لإعادة ترميم قواعدها الشعبية تمهيداً لاستخدامها في تحسين أوضاعها ضمن الانتخابات البرلمانية المقبلة.
لذلك فإن قراءة “الإطار التنسيقي” والمتحالفين معه، وحتى الحكومة برئاسة السوداني، لم تقف في قراءتها لدعوة الصدر عند حدود المقاطعة الظاهرة فيها، بل قرأت ما بين السطور، وما تحمله من محاولة الصدر لتعطيل الانتخابات وإلغائها، أولاً من أجل حرمان خصومه من فرصة الاستيلاء على هذه المجالس، وثانياً النيل من صلاحية الحكومة في إدارة شؤون البلاد وإسقاط شرعيتها، ومن ثم الدفع من أجل إجراء انتخابات برلمانية مبكرة التي شكلت أحد أهم محاور وبنود التسوية التي عقدت بين “الإطار التنسيقي” وحلفائه من جهة وبين البارزاني – “الحزب الديمقراطي” والحلبوسي – “حزب تقدم” من جهة أخرى، وانتهت بإعلان إنشاء تحالف إدارة الدولة وتكليف السوداني رئاسة الحكومة وإعادة تثبيت الحلبوسي في موقعه على رأس البرلمان.
سياسة الاستيعاب التي اعتمدتها الحكومة والقوى السياسية، تحديداً “الإطار التنسيقي” لخطوات الصدر التصعيدية في كل مراحلها وبكل عناوينها، قد تكون السبب الذي دفع الصدر وتياره للجوء إلى آخر خياراتهم والمقامرة بآخر الأوراق وطرحها على الطاولة وفي الشارع بعد تقلص خياراته، بحيث لم يجد أمامه سوى الذهاب إلى أقصى درجات التصعيد والدعوة إلى مقاطعة الانتخابات التي تسمح له باستخدام الشارع الموالي له والمدفوع بالرغبة للحد من تراكم الخسائر وإخراجه من آخر المواقع التي تشكل المساحة لاستقطاب المؤيدين من بوابة الخدمات التي توفرها مجالس المحافظات.
إصرار الصدر على الدعوة إلى المقاطعة التي جاءت في مرحلة دقيقة وحساسة سياسياً وأمنياً يمر بها العراق وما تحمله من أخطار، قد يعني أنه لن يكون محرجاً في الذهاب إلى خيار إسقاط “حرمة الدم” إذا ما كان المدخل لإطاحة ليس فقط العملية الانتخابية، بل العراق والاستقرار أيضاً.