لم تطلع رزان زيتونة إلى الحرية بعد. خلف الزنازين الموصدة بالأغلال، صرخ السجين: “سقط الأسد. اطلعوا شمو الحرية ما عاد في خوف”
تدافع السجناء خارج أقبية “صيدنايا” وغيرها، لكنّ رزان لاتزال ورفيق دربها وائل حمادي وسميرة خليل زوجة الكاتب ياسين الحاج صالح والشاعر والحقوقي ناظم حمادي في عداد المفقودين. ولايزال الأمل معقوداً على رغم مضي أكثر من عقد على إخفائهما القسري، يوم حصلت تلك الغزوة المفاجئة لمكتب الفريق الناشط في قضايا السجون، حيث بقي وشاح رزان الأزرق آخر ما يدل إلى أنها كانت هناك، في دوما، حاضرة على رغم التهديدات ومحاولات الاغتيال المتكررة، إنما لأنها وقفت في وجه الجميع وصرخت: “لدي حلم”. وعبارة مارتن لوثر الشهيرة، أرفقتها الصبية الشقراء ذات العينين الزرقاوين بالآتي: “هذه أحوالنا، فإما أننا ضللنا الطريق في متاهات الحلم، وإما أننا كففنا عن أن نحلم أصلا”.
كانت رزان في حينها في الثلاثينات، ومضت الأعوام من دون أثر، سوى ذلك التقرير عن وجود مقبرة فيها رجال كثر وامرأة، ومن ثم النفي الذي تلاه ، وللقصة بداية ولا تزال خواتيمها مؤجلة، إنما إلى حين.
ربيع رزان
أبصرت رزان النور مع تفتح أزهار ربيع عام 1977، في مستشفى الفاتح في طرابلس الليبية. تذكر والدتها منيرة الحموي أنها كانت الأنثى الوحيدة في جناح الذكور. ابتسمت وقالت: ستكون مميزة. وفي الثانية عشرة من عمرها، بعد عودة العائلة الى دمشق، اصطحبتها والدتها مراراً الى سجن صيدنايا لزيارة قريب. كانت تهمة الأخير: “ناشط سياسي”. وفي حينه سألت الطفلة: “ما تهمة سجين الرأي؟”. قالوا لها: “يكتب في السياسة”.
خلف الجدران وعتمة الزنازين، تشكل وعي رزان التي درست المحاماة وغدت أيقونة ثورة عام 2011، غير آبهة لتهديدات النظام ومن ثم الرصاص التحذيري الذي قوبلت به في دوما، إذ عمدت الى زيارة معتقلي الرأي في زنازين الفصائل الاسلامية، يوم أسست لجان التنسيق المحلية في سوريا، موثقة من خلال تقارير وزعتها على الاعلام الغربي، وعينها على محكمة لاهاي، الانتهاكات ضد المدنيين في سوريا، فكان القرار بخطفها من مكتبها عشية اليوم العالمي لحقوق الانسان في 9 كانون الأول(ديسمبر) من عام 2013، لتبقى جريمة الخطف بمثابة الجرح المفتوح إذ لايزال الغموض يلف مصير فريق عمل مكتب “مركز توثيق الانتهاكات”.
الشوكولا… حلم
تذكر والدتها منيرة أن آخر ما طلبته ابنتها في المكالمة الأخيرة بينهما: “لوح شوكولا”. قالت ممازحة: “هذا الترف بات مفقوداً في دوما”. في اليوم التالي، انقطع الاتصال برزان، وذاع الخبر: “عملية خطف”. كانت والدتها تشتري الشوكولا، دزينات وأصنافاً بقيت قيد الانتظار.
بعد غياب سنوات، كتبت منيرة لابنتها: “لن أنسى بداية الانتفاضة في سوريا، حين كنت تتوارين عن الظهور العام لكي تتفادي الاعتقال. تغادرين البيت ليلاً، متخفية. وكنت، كلما اشتقت إلى ابنتي، أسعى الى مقابلتها سرّاً. وأمام طرح مغادرة البلاد، كانت رزان تهزّ رأسها بابتسامة حزينة، وتجيب: لن أغادر بلدي”.
رسالة من شقيقتها
وإذ تقاوم عائلة رزان غياب الابنة الذي امتد لأكثر من اثني عشر عاماً، تتكدس الرسائل بانتظار عودة غير مضمونة، وقد كتبت شقيقتها ريم على صفحة “فيسبوك” بعنوان “الأعمال غير الكاملة لرزان زيتونة”: ” بعد مضي كل هذه السنوات لم يبق في قلبي سوى الاحساس بالفخر كوني شقيقة انسانة عاشت مخلصة لبلدها ومناصِرة لقضايا حقوق الانسان. فخري كبير بأنها انتصرت يوم خطفوها لأنها أثبتت جبنهم وقوة موقفها السلمي ومدى أهميتها كناشطة فاعلة على الارض”.
جائزة “آنا بوليتكوفيسكايا”
تسلمت رزان عام 2011 جائزة “آنا بوليتكوفيسكايا” من جمعية “RAW in WAR” البريطانية تقديراً لتقاريرها عن الفظائع المرتكبة ضد المدنيين في سوريا، كما اختارها البرلمان الأوروبي في العام ذاته للفوز بجائزة ساخاروف لحرية الفكر. أما في سوريا، في زمن النظام، فيرد “ناشط وحقوقي” سبب الإخفاء القسري إلى: “لعلهم خطفوها لأنها لم تكن فتاة محافظة”، مغيباً نضالاتها وذلك التجوال المجبول بالدموع بينما كانت تتنقل من سجن الى سجن موثقة الجرائم ضد الانسانية بالورقة والقلم.
ماذا صنعت؟
عن رزان، كتب الصحافي عمر حرقوص مطالباً بالكشف عن أسرار إخفائها ورفاقها وعشرات الآلاف غيرها في سجون النظام والإسلاميين بأنواعهم: “الإخفاء القسري لن يوقف الحكاية، والحديث عن رزان لن ينتهي هنا، فحقها أن نقول للناس ماذا صنعت هذه الرفيقة الرقيقة لحماية شعبها من غدر النظام والميليشيات التابعة أو المعارضة؟”.
يستذكر عمر اتصال رزان يوم طلب النظام السوري من السلطات في بيروت اعتقاله بتهمة الانتماء الى “شهود الزور” مع غيره من إعلاميين وسياسيين لبنانيين، خاطبته مازحة: “سأكون محاميتك في دمشق.. وستخرج من السجن بريئاً”.
زوج سميرة
بعد سقوط نظام الأسد وتسلم الإدارة السورية الجديدة زمام الأمور، نظم الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، زوج سميرة الخليل، اعتصاماً أمام المكتب نفسه الذي خطفت منه رزان ورفاقها، مطالباً بإحياء القضية ومعرفة مصير النشطاء.
وفي منشور للكاتب السوري على منصات التواصل، ذكر الآتي: “نظمنا اليوم بعد الظهر اعتصاماً في دوما أمام مكتب مركز توثيق الانتهاكات الذي خطف منه كل من سميرة ورزان ووائل وناظم. كان الحضور جيّداً لناحية العدد الكبير للصحافيين. المكتب أصبح بيتاً لعائلة تقطنه منذ 7 أشهر. سمحوا لنا، أنا وآلاء ابنة أخت سميرة، بالدخول إليه والتجول فيه”.
وأضاف الحاج صالح: “كان اعتصاماً ناجحاً، ومرّ من دون أي إشكال، طالبنا فيه بالحقيقة الكاملة والعدالة ومعاقبة الجناة”.
مضى 12 عاماً على تغييب رزان، في يوم “كانوني” بارد، لكن كلماتها لاتزال حاضرة بقوة على صفحات الرأي وفي قلوب الناشطين والسجناء الذين خرجوا الى الحرية “بأعجوبة”: “ربما عندما يكون جلادك هو عدوك، تبقى المسافة بينك وبين الموت المعنوي قائمة حتى في اللحظات التي تقابل فيها الموت المادي. أما عندما يكون جلادك هو مواطنك في الخندق، هو ابن بلدتك أو جارك…. فيغدو الألم عصياً على الفهم”.
ويبقى “اختفاء رزان عصياً على التجاوز”.