تسارعت الأحداث العراقية في الأسابيع الأخيرة على وقع أحداث غزة لتنهي هدوءاً نسبياً داخلياً دام أكثر من عام، قبل أن تدخل الأطراف الحاكمة والمتحالفة معها في صراع بينها وبين بعضها والولايات المتحدة. كانت الضربات الجوية الأميركية الأسبوع الماضي لمنشآت تابعة للفصائل المسلحة العراقية جنوب غربي بغداد التي سقط فيها نحو عشرة قتلى، رداً على القصف المتصاعد لهذه الفصائل للقوات الأميركية بعد اندلاع أحداث غزة، تحولاً جديداً في النزاع بين الطرفين وإحراجاً حقيقياً للحكومة العراقية التي تبدو بدون خيارات جدية تحت تصرفها المباشر.
منذ قيام الولايات المتحدة بعملية اغتيال زعيم فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، ونائب رئيس الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، عقب خروجهما من مطار بغداد مطلع عام 2020، توقفت القوات الأميركية عن شن أي عمليات عسكرية في العراق ضد الفصائل المسلحة، حتى مع تعرض قواتها وسفارتها فيه إلى قصف هذه الفصائل بين الآونة والأخرى، خصوصاً في عهد حكومة مصطفى الكاظمي. اتجه التفكير الأميركي حينها إلى المزيد من الاستثمار في الحكومات العراقية بخصوص تحميلها مسؤولية حماية القوات الأميركية والضغط عليها لتأديتها، مقابل الامتناع الأميركي عن القيام بهذه الحماية منعاً لإحراج هذه الحكومات وإظهارها أمام الجمهور العراقي والإقليمي عاجزةً عن فرض سيطرتها على السلاح في البلد. في الحالات القليلة التي شهدت بعض التصاعد في العمليات العسكرية للفصائل ضد القوات الأميركية في البلد، كانت الولايات المتحدة تلجأ إلى ضرب هذه الفصائل في سوريا وليس في العراق، غالباً في المنطقة الحدودية العراقية – السورية حيث بعض النقاط التابعة لهذه الفصائل.
استمرت معادلة الاستقرار القلق هذه بحدود ثلاث سنوات، وتعمقت أكثر، لكن ليس على نحو راسخ، مع تشكيل حكومة محمد شياع السوداني في تشرين الأول (أكتوبر) 2022، التي انبثقت من الكتلة البرلمانية الشيعية الأكبر، الإطار التنسيقي. جزء أساسي من الإطار التنسيقي هي الفصائل المسلحة التي تشكل الطرف العراقي من محور المقاومة الإقليمي الذي ترعاه إيران. لعبت هذه الفصائل دوراً حاسماً في إنجاح تشكيل حكومة السوداني وإحباط مساعي التيار الصدري، الفائز بانتخابات 2021، في تشكيل حكومة أغلبية برلمانية تستثني الإطار التنسيقي وترسله إلى مقاعد المعارضة البرلمانية، الدور الذي كان يرفضه الإطار التنسيقي بشدة. لم تحصل هذه الحكومة على الموافقة والدعم الأميركيين إلا بعد إعطائها تعهدات للولايات المتحدة أنها ستمنع أي استهداف مسلح لقواتها وسفارتها من جانب الفصائل. على هذا النحو ساد ما يشبه “شهر عسل” طويلاً بين الفصائل والقوات الأميركية استمر نحو عام، تخلله بعض التصعيد الخطابي والمحرض، لكن غير المؤثر، ضد القوات الأميركية من جانب بعض الفصائل. لكن هذه التهديدات الخطابية لم تتحول إلى أفعال مسلحة بل كانت في معظمها انعكاساً لخلافات بين الفصائل نفسها.
جاءت أحداث غزة مفاجئة وكبيرة ومثيرة عاطفياً لتطيح شهر العسل هذا، إذ تصاعدت نوعياً وكمياً العمليات المسلحة لبعض الفصائل العراقية الأشد أيديولوجية والأكثر قرباً من إيران ضد القوات الأميركية في العراق وسوريا. بحسب إعلانات أميركية، شهد البلدان أقل بقليل من سبعين عملية مسلحة ضد هذه القوات بعد منتصف تشرين الأول، وتضمن بعضها استخدام صواريخ بالستية مصنوعة في إيران في استهداف قاعدة عين الأسد، غرب العراق، التابعة للجيش العراقي حيث الوجود العسكري الأوسع للقوات الأميركية. بإزاء عجز الحكومة العراقية على مدى أكثر من شهر في منع أفعال الاستهداف المسلح وتصاعد الأخيرة نوعياً، جاءت الضربات الجوية الأميركية على مدى يومين لتدمير مراكز قيادة لأحد الفصائل، “كتائب حزب الله”، وشاحنته التي أطلقت الصواريخ الإيرانية ضد القاعدة العسكرية العراقية. كانت الضربة الأميركية موجعة على ما يبدو، وقابلة للتكرار، إذ بعثت أميركا رسائل واضحة للحكومة العراقية بخصوص استعدادها لشن المزيد من الضربات الموجعة في حال استمرار استهداف الفصائل لقواتها.
تجد الحكومة العراقية نفسها في وضع محرج وضعيف نسبياً، إذ انهار تعهدها للولايات المتحدة الأميركية بحماية قواتها وسفارتها، كما أنها لا تستطيع أن تدخل في مواجهة عسكرية أو حتى سياسية مع الفصائل المسلحة. ظهرَت في البيان الحكومي العراقي شحة الخيارات المتيسرة لرئاسة الوزراء، إذ اكتفى البيان بتوزيع اللوم على الطرفين المتنازعين، من دون تسميتهما. أدان البيان “بشدة الهجوم والذي جرى من دون علم الجهات الحكومية العراقية، ما يُعد انتهاكاً واضحاً للسيادة، ومحاولة للإخلال بالوضع الأمني الداخلي المستقر”، واعتبره “تجاوزاً مرفوضاً على السيادة”. أما بخصوص الفصائل، فقد احتوى البيان إشارة خجولة نسبياً بضرورة عدم تصرفها وحدها على أساس “إن أي عمل أو نشاط مسلح يتم ارتكابه من خارج المؤسسة العسكرية، يُعد عملاً مداناً ونشاطاً خارجاً عن القانون ويعرض المصلحة الوطنية العليا للخطر”.
باستثناء هذا التقريع اللغوي الرسمي المعتاد، لن تستطيع الحكومة القيام بنفسها بشيء ملموس بإزاء الفصائل المسلحة التي تسببت بهذه المواجهة ولا إقناع الولايات المتحدة بالتخلي عن سياسة الردع العسكري. أقصى ما هو متيسر لها هو الطلب من إيران للضغط على الفصائل الأكثر تشدداً لمنعها من مزيد من التصعيد بإزاء القوات الأميركية. وعلى الأكثر سيحصل مثل هذا الضغط فليس من مصلحة إيران ولا الفصائل المسلحة الذهاب بعيداً في مواجهة مسلحة مع القوات الأميركية في العراق، ليس فقط لأن موازين القوى العسكرية لمصلحة أميركا في مثل هذه المواجهة بعدما قررت إدارة الرئيس جو بايدن تبني الردع القاسي ضد الفصائل وتخلت عن محاولة استيعابها أو “ترويضها” عن طريق الحكومة العراقية، بل أيضاً لأن مثل هذه المواجهة، إذا تصاعدت وخرجت عن السيطرة، ستعني تقويضاً جدياً لحكومة السوداني التي هي أيضاً حكومة الإطار التنسيقي، حليف إيران الأوثق في العراق.
سيفتح مثل هذا التقويض، خصوصاً اذا نفضت أميركا يدها من هذه الحكومة واستفاد خصومها الداخليون الكثيرون المتربصون بها من صدريين وتشرينيين وسواهم، من هذا الأمر لتكثيف نشاطهم ضدها في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية بعد مشكلة شح الدولار وارتفاع سعره بإزاء السعر الحكومي، البابَ على احتمالات إطاحة هذه الحكومة. إذا حصلت مثل هذه الإطاحة، فستعني خسارة فادحة لإيران والفصائل المسلحة والإطار التنسيقي، وهي الجهات التي، بمجموعها، تعتبر المستفيد الأكبر من هذه الحكومة التي تعبر عن المصالح المتشابكة لهذه الأطراف الثلاثة في العراق وتحميها.
فهل تستحق مواجهة مفتوحة وحقيقية مع القوات الأميركية في العراق دفع مثل هذا الثمن الباهظ؟