ليس الوقت لتبادل الاتهامات او السجال بينما فلسطين وشعبها المعذَّب يعيشان أسوأ حال. لكن ما ورد في مقالة الكاتب حسن إسميك (النهار العربي 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023)، لا يسمح للقارئ بتجاوزه، أو تجاهله، لأنّه حمل مفارقات غريبة عجيبة من حيث الشكل ومن حيث المضمون ومن حيث التوقيت. ولا نهدف من خلال هذه العجالة إلى الردّ على كل تفاصيل المقال الذي يشبه ما كان يقوله الأميركيون والإسرائيليون والبريطانيون والفرنسيون، ومعهم الشيوعيون و”الإخوان” عن عبد الناصر، كأني بالكاتب ينتقم لهؤلاء جميعاً، عندما يصف الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر بـ”عرَّاب الهزائم والدكتاتوريات العربية”، وفق ما جاء في عنوان المقالة.
ليس الموضوع اتفاقاً او اختلافاً مع الكاتب حول التقييم الشخصي لتجربة عبد الناصر، وقد يكون في التجربة بعض الإخفاقات الموصوفة؛ ولكن ما قرأناه في مقاله يُشبه أعمال شرطة هتلر السرّية (الغستابو) في ثلاثينات القرن الماضي، عندما كانت ترشّ المياه الآسنة على المتظاهرين ضدّ الفوهرر، ليس بهدف تفريقهم والإيذاء فقط، بل لتغيير صورتهم الناصعة البياض الى سوداء قاتمة. والكاتب كان قاسياً في استخدام العبارات الجارحة بحق عبد الناصر، كأنّه في بعض الزوايا يستعيد فلسفة غوبلز التي اعتقدت أنّ تكرار الخطأ قد يجعله صحيحاً، وفقاً لشعاره الشهير: “كرّر ثم كرّر فلا بدّ أن يعلق شيء مما تقوله في أذهان الناس”.
الوسيلة المستخدمة في الهجوم أو في الدفاع؛ غالباً ما تساعدهما في تحقيق الغاية، والبحث عن ورقة بين “السلال المتروكة” على قارعة الطريق كدليل إدانة، يسيء الى الباحث، ويصرف من رصيده، لأنّ في ذلك تأكيداً أنّ الكاتب يفتش – كما محامي الدفاع – عن أي مستند يساعده في مطالعة الدفاع عن مُوكله، حتى ولو كان مرتكباً، لأنّه يقوم بواجبه المهني المدفوع الأجر بصرف النظر عن قناعاته. ولا نريد على الإطلاق أن يكون الكاتب اسميك مثل هؤلاء، حتى ولو كنا نختلف معه في الرأي، لأنّه يتمتع بمكانة تؤكّد معرفته بأوراق الكتب الزاهية على رفوف المكتبات العريقة، ولم يكُن ليحتاج إلى براهين واهية وغير دقيقه، كقوله “انّ عبد الناصر اضطهد اليهود في مصر”، بينما كان الأخير قد عاقب أحد مسؤولي إدارته العسكرية (أحمد الشفتري) لأنّه قال في غزة كلاماً غير لائق بحق اليهود، لأنّه اعتبر أنّ الصراع هو مع الصهيونية ومع الاستعمار وليس مع اليهود كأبناء ديانة ابراهيمية.
نرى أنّ عبد الناصر صفحة ناصعة في تاريخ العرب، وهو أعلّى من مكانتهم في العالم من خلال مواقفه، وخصوصاً تزعمه مع (نهرو وتيتو) حركة دول عدم الإنحياز في مواجهة الجبارين الأميركي والسوفياتي، وفرض اللغة العربية خامسة في الأمم المتحدة. وهو كان بطل انتصارات وليس عراب هزائم، ويكفي ذكر ما حصل في معركة تأميم قناة السويس ومواجهة العدوان الثلاثي عام 1956، ولم يكن العالم برمته ليصدِّق أن تعود القناة ملكاً للمصريين، اما هزيمة العام 1967؛ فهي ليست من مسؤولية عبد الناصر، بل نتاج لسياسة الجواسيس الذين كانوا يحنّون الى عصور بائدة، والجماهير المصرية والعربية التي خرجت ترفض استقالة عبد الناصر، كما ترفض تحميله مسؤولية النكبة الثانية؛ كانت واعية لما حصل، ولم يأتِ فعلها من خلل بنيوي ناتج من العقل الجمعي العربي كما قال الكاتب.
ثلاثة لا يمكن تجاهل دورهم في الصراع مع إسرائيل، ولو اختلفت مع سياستهم الداخلية، هم الرئيس جمال عبد الناصر والملك فيصل بن عبد العزيز والشيخ زايد آل نهيان. الأول كسَّر كل القيود الثقافية والعملانية التي زرعها الإستعمار لدى الشعوب العربية، والثاني استخدم بشجاعة فائقة سلاح النفط ضدّ الذين دعموا العدوان الإسرائيلي عام 1973، والثالث وضع كل مقدّرات الإمارات بتصرّف المعركة من أجل فلسطين. وما يحصل اليوم من عدوان على غزة وعلى الضفة الغربية وعلى جنوب لبنان بدعمٍ من دول غربية كبرى؛ يؤكّد أنّ عبد الناصر لم يكُن يواجه مشروعاً إخوانياً او ليبرالية محلية اعتادت على استغلال الثروات من دون قيود؛ بل واجه حالةً دولية واسعة لا تريد للعرب أن يخرجوا من الوصاية، ولا تريد لفلسطين أن تتحرّر من كونها حالياً قاعدة صهيونية تخدم مصالح الدول الكبرى.
وإذا كنا لا نريد – أو ليس بإمكاننا – في هذه العجالة أن نردّ على كل المقاربات التي جاءت في مقالة الأستاذ حسن إسميك، لكننا نؤكّد أنّ موضوع الحرّيات العامة في الوطن العربي لا بدّ من أن يُفتح على مصراعيه، وعبد الناصر أطلق حراكاً شعبياً جامعاً تجاوز المُقيّدات التي وُضعت على هذه الحريّات، والتصرفات الأمنية غير السوية التي قام بها بعض المتحمسين لنظامه ضدّ سيّد قطب أو غيره من المعارضين في مصر وفي سوريا أيام الوحدة، كانت من ضمن سياقات الدفاع عن النظام باعتقاد ضباط كبار ساعدوا عبد الناصر، لأنّ بعض هؤلاء كانوا مرتبطين بالخارج كما قالوا، ونحن لا نتبنّى وجهة نظرهم، ولا نريد الدفاع عن أي مُرتكب أو عن أي مَن يساهم في قمع الحرّيات واضطهاد الناس.
اما الناصرية؛ فلم تفرِّط بالمساحة المصرية، ولم تكُن أسوأ ما حصل في المنطقة (كما يقول الكاتب) بل كانت فكرة قومية جامعة، بنت تشاركية مصرية، وشيّدت أكبر إنجازات مصر (السد العالي) وجهدت لتجاوز كل عناصر التفرقة الدينية والعرقية والجهوية التي استعملها الاستعمار لتنفيذ مآربه. فالوحدة العربية ليست فكرة قمعية، بل هي فكرة جامعة بين الأقباط والمسلمين في مصر، كما بين كل مكونات الأمة العربية الأخرى.
عذراً أستاذ حسن، لا نوافقك الرأي في ما قلت، واللحظة السياسية القاتمة التي تمرُّ فيها الأمة ليست لنكء الجراح.