–
إذا كان فرويد قد اهتم باللاشعور عند الفرد من حيث هو المكان الذي يضم الغرائز والمكبوتات الدفينة غير الواضحة في ذاتها، فإن كارل يونغ اهتم باللاشعور الجمعي من حيث هو العواطف والأفكار القبلية التي تتكون في الخلفيات التاريخية للثقافة والتقاليد (ذاكرة الإنسانية النفسية)، وتعبر عن نفسها في لحظات تاريخية معينة على شكل مواقف وسلوكيات تشكل انعكاساً لغرائز ودوافع غير عقلانية.
يظهر اللاشعور الجمعي دائماً أثناء الحياة الاجتماعية العادية، لكن مع تعقّد المجتمعات بدأ ينشأ لاشعور سياسي خاص بالجماعات المنظمة، تعبيراً عن وعي ما قبل مدني ـ حداثي في اللحظات التاريخية الفارقة التي تضرب الاجتماع الإنساني، خصوصاً في حالة الثورات الاجتماعية. وهذا الطابع الأيديولوجي هو ما يميز الجماعات المنظمة (جماعة عضوية كالقبيلة والعشيرة، حزب، أمة) عن الجماعات العامة غير المنظمة، وهذا البعد الأيديولوجي يسميه ريجيس دوبريه باللاشعور السياسي، كتمييز عن اللاشعور الجمعي الذي تحدث عنه يونغ، الخاص بالجماعات غير المنظمة.
واللاشعور السياسي يشير إلى الأفكار والمشاعر التي تؤثر على السلوك السياسي دون أن تكون واعية بالضرورة، وهذا اللاشعور يلعب دوراً مهماً في تشكيل السلوك السياسي، ويساهم في استمرار الأزمات الاجتماعية والسياسية. وما يميز اللاشعور السياسي أنه بنية من علاقات جمعية تمارس على الأفراد والجماعات ضغطاً قوياً، قد لا يقاوم (علاقات عشائرية، قبلية، طائفية، مذهبية، إثنية، حزبية ضيقة)، تستمد قوتها وفعاليتها مما تقيمه من ترابطات بين الناس تؤطر عملهم. بمعنى آخر، يريد دوبريه القول: ليس وعي الناس هو ما يحدد وجودهم السياسي، بل الوجود الاجتماعي الخاضع لمنظومة قاهرة من العلاقات المادية، هو ما يحدد وعيهم.
يشير اللاشعور السياسي إلى الأفكار والمشاعر التي تؤثر على السلوك السياسي دون أن تكون واعية بالضرورة
أخذ محمد عابد الجابري مقولة اللاشعور السياسي عن دوبريه من دون أن يأخذ حمولتها الأيديولوجية التاريخية، فدوبريه كان يتحدث عن مرحلة تاريخية في أوروبا الصناعية التي أدت فيها منظومة العلاقات الاقتصادية المتطورة إلى الهيمنة على الفعل الجماعي، دافعة بالعلاقات العشائرية والطائفية إلى الخلف، دون أن تلغيها تماماً، لكنها لم تعد فاعلاً رئيساً. وقلب الجابري مفهوم اللاشعور السياسي عند دوبريه، فالعلاقات الاجتماعية ذات الطابع العشائري والطائفي لا تزال تحتل في مجتمعنا العربي موقعاً أساسياً، بينما العلاقات الاقتصادية (علاقات الإنتاج)، لا تهيمن على المجتمع إلا بصورة جزئية. وأضيف هنا أيضاً العلاقات السياسية (مواطنة، حقوق الإنسان، الحريات المدنية والسياسية، الديمقراطية) فتأثيرها قليل جداً، خصوصاً لدى الجماعات.
وهكذا، يتابع الجابري القول إذا كانت وظيفة اللاشعور السياسي عند دوبريه هي إبراز ما هو عشائري وديني في السلوك السياسي في المجتمعات الأوروبية المعاصرة، فإن اللاشعور السياسي في مجتمعنا العربي هو بالعكس: إبراز ما هو سياسي في السلوك الديني والعشائري. ما يريد الجابري قوله إن في الغرب المعاصر ثمة ظاهرة سياسية قائمة في ذاتها، تدفعها وتوجهها عوامل سياسية محضة، مع تأثيرات دينية وعشائرية بسيطة، أما في عالمنا العربي، فليس ثمة ظاهرة وسلوك سياسي محض قائم بذاته، بل سلوكيات دينية ـ عشائرية ـ طائفية ـ إثنية تأخذ لباساً سياسياً. ولنا في العالم العربي أمثلة صارخة جداً: من لبنان إلى العراق، فاليمن، وليبيا، والسودان، وسورية.
تظهر انعدام الثقة بين مكونات المجتمع السوري بحدة في هذه المرحلة من تاريخ سورية
الفارق بين السنّة وباقي الأديان والطوائف الدينية يكمن في أن السنّة في العالم العربي هم الأمّة (هوية الأمّة)، كما الحال في إيران حيث الشيعة تمثل هويّة الأمّة، وكما في أميركا حيث المسيحية البروتستانتية أمّة تجسّد هوية البلاد، وكما في فرنسا وإسبانيا حيث المسيحية الكاثوليكية هي الأمة. بخلاف ذلك، لا تشكّل باقي الطوائف أمّة، ولا تنظر إلى نفسها على أنها كذلك، بل تنظر إلى نفسها باعتبارها أقلية، والتفكير الأقلوي مضاد للتفكير الوطني دائماً من حيث الجوهر، لأن منطق الطوائف والإثنيات الأقلوية في اللحظات التاريخية الفارقة يكمن في الحفاظ على نفسها جماعةً، حتى لو كان الثمن نقل البلاد من مرحلة نظام استبدادي يتأذى منه الجميع على مستوى الفرد، إلى نظام ديمقراطي يستفيد منه كل أفراد الوطن. لكن هذا الوعي الأقلوي، ليس بالضرورة مطابقاً للواقع، فقد يكون وعياً زائفاً نابعاً من مخيال اجتماعي ـ سياسي، تعضده ذاكرة تنتمي إلى تاريخ غابر لم تعد حوامله الاجتماعية والسياسية والثقافية قائمة الآن، في زمن العولمة الثقافية والسياسية، وفي زمن أصبحت فيه حقوق الإنسان والمواطنة والديمقراطية والليبرالية والعلمانية مهيمنة على الوعي الإنساني كافة.
اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد، لا يزال اللاشعور السياسي يلعب دوراً مهماً لدى الأقليات، سواء أكانت إثنية (الأكراد) أم دينية (المسيحيين) أم طائفية (الدروز) أم أيديولوجية (جماعات إسلامية مسلحة هي جزء من منظومة الشرع العسكرية). وتظهر انعدام الثقة بين مكونات المجتمع السوري بحدة في هذه المرحلة: “قوات سوريا الديمقراطية” والتشكيلات العسكرية الدرزية، وتشكيلات أحمد العودة في درعا، وفصائل إسلامية مدعومة من تركيا، ترفض جميعها تسليم سلاحها، وإن قبلت بذلك فهذا مشروط بأن يكون دخولُها كجماعات بقاءها مكونات عسكرية إثنية وطائفية قائمة بذاتها تحت عنوان عام هو الجيش. وأيضاً، اشترط الأكراد والدروز عدم تسليم السلاح للجيش الوليد إلا بعد تشكيل نظام سياسي يتفق الجميع عليه.
بعد سقوط نظام الأسد، لا يزال اللاشعور السياسي يلعب دوراً مهمّاً لدى الأقليات، سواء أكانت إثنية أم دينية أم طائفية أم أيديولوجية
هنا يتداخل اللاشعور السياسي لدى هذه الجماعات مع شعور سياسي واع: الأول يُعبر عن مكنونات ذاتية والثاني يُعبر عن عوامل موضوعية. والحقيقة يصعب التمييز بينهما في هذه اللحظات التاريخية الفارقة، فأيهما هو الدافع للسلوك الجمعي؟ هل هي المكبوتات السياسية اللاواعية في عقل الجماعة؟ أم هي عوامل سياسية موضوعية براغماتية نابعة من مفصل تاريخي مهم، يجب استغلاله للضغط على الإدارة السياسية والعسكرية الجديدة من أجل بناء دولة وطنية يتساوى فيها الجميع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً؟
تتوقّف الإجابة عن هذه الأسئلة ليس على سلوك الأقليات فقط، بل على سلوك الأكثرية السُنية التي أصبحت اليوم في مركز السلطة، فهي مطالبة ليس بتقديم تطمينات عامة فحسب، بل بتقديم برنامج سياسي واضح المعالم، تكون الديمقراطية والليبرالية جزءاً أصيلاً فيه. وفي عالم بناء الدول، لا أهمية للتطمينات الاجتماعية والدينية والسياسية إن لم تكن مؤسسة ومؤطرة بالقوانين، وبمشاركة الجميع.
اللاشعور السياسي بالمعنى الذي تحدث عنه دوبريه وبالمعنى المعاكس الذي تحدّث عنه الجابري، ما يزالان حاضرين في خطاب وسلوكيات جميع المكونات السورية، بما فيها الإدارة الحاكمة الجديدة. ويبقى الفارق في أي من اللاشعورين سيتغلب في نهاية المطاف.