مرَّ 22 عاماً على هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) -غزوة نيويورك- وانهيار برجَي التجارة العالميين. تغير شكل العالم منذ تلك اللحظة، إذ أعلن جورج بوش «الحرب على الإرهاب»، وسقطت بغداد عام 2003، ثم قُتل بن لادن ورُمي في البحر عام 2011، واكتشفنا وجود أفلام إباحيّة على القرص الصلب في مخبأه وكتُب لعبد الله عزام.

تسلّم أيمن الظواهري؛ «الدبلوماسي المتصوف» وطبيب العيون «قيادة» القاعدة، وقُتِل عام 2022، ثم دخل العالم في جدل، هل قُتل فعلاً أم لا! ثم عادت كابل إلى قبضة طالبان بعد الانسحاب الأميركي المُشين عام 2021.

في ذكرى اليوم «الذي توقف فيه العالم عن الدوران» عاد اسم محمد صلاح الدين زيدان من جديد، قائد القاعدة بعد الظواهري والملقب بـ«سيف العدل»، والذي يتخذ لنفسه اسم القلم «عابر سبيل»، صاحب المسيرة الملفتة في التنظيم كونه انضم مباشرة إلى الصف الأول بجانب بن لادن، ودون التدرج التقليديّ في هرمية القيادات الجهاديّة.

سيف العدل منظّر عسكري نشر عدداً من الكتب الحربيّة؛ كَتَبَ عن أبو مصعب الزرقاوي (من أوائل من قطعوا رأساً أمام الكاميرا) وعن الجهاديات في قندهار. لم نتمكن من معرفة إن كان «الشيخ أسامة» قد قرأ لعابر سبيل أم لا، على رغم مرافقة الأخير لبن لادن منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، ولا نعلم بدقة متى بدأ زعيم القاعدة الجديد نشاطه «الأدبي». (كان بالإمكان التعمق أكثر بهذه المعلومات لكن تصفح مواقع تنظيم القاعدة وتلك الجهاديّة يحرك أثر الرعشة والخوف لدي من مراقبة المخابرات الفرنسيّة لنشاطي الرقميّ).

احذروا الحيوانات الناطقة  

نشر عابر سبيل مؤخراً آخر مؤلفاته: قراءة حرّة في كتاب 33 استراتيجيّة، الذي يحيل إلى كتاب 33 استراتيجيّة حرب الصادر عام 2006 لـروبيرت غرين، صاحب كتاب فن الغواية وقوانين الطبيعة البشريّة. يصِف عابر سبيل كتاب غرين بالسطحية؛ ولم يذهب بعيداً في ذلك، فالكتاب هو أشبه بنصائح عامة مع أمثلة عسكريّة من التاريخ والجغرافيات المتعددة. يمكن القول هو كتاب يخاطب ذاك المتخيَّل الذي يمتلكه عشاق الحرب دون أن يخوضوها، من يرونها فناً ويرددون عبارات تقليديّة في سبيل تطبيقها ضمن الحياة اليوميّة والمهنيّة، هو أشبه بكتب تطوير الذات لكنه ذا صبغة عسكريّة عن الحنكة والحذق.

صدر كتاب 33 استراتيجيّة حرب بالعربيّة عام 2009، ترجمهُ سامر أبو هواش عن مشروع كلمة للترجمة في الإمارات العربية المتحدة، وعام 2017 (هنا تبدأ صورة الجهادي كقارئ تتضح) أهدى أحد «الشباب» نسخةً منه إلى عابر سبيل؛ النسخة العربية التي ترجمها أبو هواش، كون عابر سبيل يقتبس منها في المقدمة التي كتبها في نقده، والتي تشرح استراتيجيّة قراءته للكتاب كما يحيل إليها بوضوح في أحد الهوامش.

قرأ عابر سبيل مقدمة الكتاب، ثم تركه لأنه يروِّج للعداوة بين الناس، ويدعو إلى تطبيق استراتيجية الحرب في الحياة اليوميّة، وينتصر للـ«فردانيّة» التي «تسير بالمجتمع إلى الهاوية». عاد سيف العدل إلى الكتاب لاحقاً، وقرأه بحذر، ليقدم النصح ويكشف غمامة التشويش فيه مع حذف كل ما «لا ينسجم مع مبادئنا وتربيتنا الإسلاميّة».

قرأ زعيم القاعدة الكتاب حرصاً على الأمّة من الضياع، ولإنارة درب «الشباب». وهنا يتبنّى عابر سبيل أساليب الكتابة العربية التراثية، تلك التي تفترض أن الكتابة لا بد لها من سبب؛ لا يكتب المؤلف مجاناً أو للمتعة، بل ليحل مشكلة، أو يدرأ شبهة، أو يكشف غموضاً، أو ينير درب ملك أو وزير.

المفارقة أن المقدمة، بصورة أدق الصفحة الأولى في الفقرة الثانية من الكتاب، تحوي هجوماً على كتب أخرى، تلك التي تشابه كتاب غرين «ولا تقل سوءاً في التربية النفسية والذهنيّة»، ككتاب الأمير لنيكولو مكيافيلي «لأن الغاية لا تبرر الوسيلة لدى المسلم» وكليلة ودمنة، كتاب ابن المقفع الشهير!

يُحذِّر عابر سبيل من قراءة كليلة ودمنة ولا ينصح به ولا بكتاب غرين أو الأمير إلا لـ«أصحاب القيم والمبادئ» وأصحاب «مرجعية يُضبَطُ بها ما يتناوله، حتى لا يضيع ‘القارئ’ بين الانتهازية المنتشرة وبوضوح في سواد هذه الكتب».

التحذير من قراءة كتاب كليلة ودمنة، أو بصورة أدق التحذير من الالتباس الذي قد يقع فيه القارئ، موجود في مقدمة كليلة ودمنة نفسه، الذي كتبه/ترجمه/انتحله ابن المقفع، مُقسّماً أنواع القرّاء ممن يتناولون الكتاب، ومبيناً معانيه الظاهرة والباطنة، مشيراً إلى «أهل الهزل من الشبان» أولئك الذين يرونه ربما مجرد حكايات عن حيوانات ناطقة تَمكِرُ وتتحذلق لتكسب أكبر قدر ممكن من الحظوة في سبيل النجاة أو الوصول إلى الحكم.

يصنف عابر سبيل نفسه إذاً من القادرين على «فهم» الكتاب، لا من العوام الهزليين. هو قادر على فهم «الفلسفة» فيه، ولذلك رفضه. وهنا نحتار، لا من جرأة زعيم القاعدة على تصنيف نفسه ضمن القرّاء، إذ لا نعلم ما الذي «قرأه» في كليلة ودمنة لينبذه، بل نحتار ونسأل عن هذا لوجود العديد من القراءات لكليلة ودمنة التي ينفي بعضها وجود النسخة الهندية بالأصل، ويرى أن الحكاية كلها؛ أي الترجمة والنسخة المحفوظة في خزانة سريّة، من ابتداع ابن المقفع (رأي عبد الفتاح كيليطو)، في حين يرى البعض الآخر أن الحيوانات الناطقة علامة على لحظة انقلاب خطر؛ هي كلام المهزومين «المطرودين من الكلام» بحسب هيثم الورداني. وربما يرفض عابر السبيل كليلة ودمنة لأنه والقاعدة ليسوا مهزومين، ولا داعي لاستعارة أصوات الحيوانات كي ينطقوا «الحق»، ولا حاجة لحذلقات وابتداع كتب وهميّة من أجل مخاطبة الحاكم والرعية.

هوية النصّ في شكله  

يعيد عابر سبيل كتابة المقدمات في النسخة الأصلية من الكتاب بلغة أشد بلاغة ورطانة. يتبنى شكل الكتاب الأصلي، ويدوِّن ملاحظاته على كل فصل، لا بصورة متسلسلة بل بتقطع، كون الكتاب أُنجز بين عامي 2017 و2022.

الرصانة في اختيار الكلمات ذات الوقع الملفت لا تُخفي العبارات المضحكة أحياناً للعناوين الفرعيّة للفصول و«الاستراتيجيات»؛ كـ«اخترق عقولهم…لتمنحهم قناعات أخرى» أو «خذ قضمات صغيرة…» المترجَمة من الأصل الإنكليزي؛ وهو ما يخلق لبساً ساخراً حين القراءة، كأن نقرأ عن معارك الصحابة وتقنيات الدفاع في غزوة الخندق بينما عنوان الاستراتيجيّة «الاتزان والتوازن».

المفارقة أن تبنيّ شكل الكتاب الأصليّ يتركنا كقراء نستعيد الكتب المشابهة و«الأشكال» التي توحي مسبقاً بمدى جديّة ما في الكتاب، وهذا بالضبط الاختلاف بين مقدمة الكتاب ذات «الشكل التقليدي» ومحتواه الذي يشبه «شكل» كتب تطوير الذات. ولكن (وهنا مبالغة) ربما يخاطب عابر سبيل الجيل الجديد، أو فئة محددة يقنعها هذا «الشكل»، وربما لهذا حذّر من «شكل» كليلة ودمنة، كونه يخاطب «الشباب» بـ«شكل» قادر على مسِّهم.

الكتاب مليء بالنصائح والتكتيكات الحربيّة التي تراهن على أسلوب «قديم» من الحرب، قائم على المقاتل نفسه والثبات على الثغور والحنكة والاستعداد النفسي. القوة أساسها إذاً استعداد القائد والجند، فالنصر نهايةً بـ«الدين لا العتاد».

الكتاب ليس الرؤية التي نقرأها مثلاً في إدارة التوحش-2004، أو تلك الرومانسيّة في كتاب على ثرى دمشق لأيمن الشربجي. هو أشبه بسلسلة دروس تتخللها أمثلة عسكريّة تاريخيّة، وأبيات شعر للنابغة الذبياني، والكثير من الأحاديث والآيات القرآنيّة وأطياف الروم والفرنجة. بصورة ما، ما زال القرآن والسنَّة هما المرجعان، وتجربة «الرعيل الأول» تحوي عبقريّة لم نشهدها إلى الآن إلا في بعض تجليات «التجربة الطالبانيّة».

البلاغة العسكريّة في الكتاب تبدو وكأنها تنتمي للتسعينيات، مع استعادة لأدبيات الجهاد الأخرى ككتاب ثرثرة فوق سقف العالم الذي تدور أحداثه بين 1979 و2001. نقرأ الكتاب الذي ربما يتناسى مؤلفه أننا في عالم يحوي مسيّرات قادرة على الهيمنة على السماء ورصد الكائنات الفضائية في الشرق الأوسط حسب ما نشره البنتاغون مؤخراً. فعلى الرغم من الإحالات إلى ضرورة فهم التكنولوجيا والقرصنة واستهداف العدو رقمياً في عقر داره، لكن التركيز على الفرد دوماً، وعلى بنيته العقليّة، وكأننا أمام دعوة إلى «جهادي مفاهيمي» قادر على رصد العالم وقراءته (وفق الإسلام) ليعرف بدقة متى يسدد ضربته، بعكس تنظيم داعش مثلاً الذي وصل في ممارسة الرعب حد الانتهاك الإباحيّ.

ربما هناك توسع أكثر في كتاب عابر سبيل القادم، ألف تغريدة وتغريدة، الذي يعدنا بنشره في إحدى الحواشي ولا نعلم إن كان العنوان هذا ثابتاً، أو سيتغير عند النشر، لا بسبب وجود كتاب آخر يحمل العنوان ذاته، بل بسبب ابتذاله الشديد.

الآخر… مسلماً وكافراً  

يحيل الكتاب إلى الجماعات الإسلامية الأخرى ويوجِّه سهام النقد إليها، لكن الأكيد أن التجربة الطالبانيّة هي الأنجح، كونها وُلِدت «على ربا الحريّة»، فالإخوان المسلمون خضعوا لـ«فض اشتباك إجباري» بسبب سنوات السجن التي قضوها، ما أنتج «اشتباكا مأساوياً ومقهوراً»، وجعل الكثير منهم ذوي أجندات فاسدة، مع ذلك نتلمَّس الأسى لدى عابر سبيل على مصير الثورة المصريّة التي أوصلت محمد مرسي إلى السلطة، ثم انقلب عليها العسكر لينتهي الأمر بمرسي مخلوعاً ثم ميتاً في السجن.

أخطأ تنظيم الدولة من وجهة نظر عابر السبيل في خطابه، إذ طبّق الرعب على الغرب وعلى شعبه، ولم يكن تكتيكياً، إذ لا بد للجهادي أن يدرس خطابه مع شعبه ومع الآخر، والآخر حسب أحد الحواشي هو «كل من لا يدين بالإسلام من أهل الكتاب أو الوثنيين أو اللادينيين وغيرهم»، وهنا تكمن برأيه «عبقرية» القاعدة في إنشائها ما سمّاه «جيل أسامة بن لادن»، وما نتج عنه متمثلاً بـ«زلزال 11 سبتمبر»، والذي يضرب عابر سبيل مثلاً صينياً لوصفه: «اضرب العشب لكي تجفل الأفاعي»!

الجهادي نصيراً لليسار العلمي  

يدرك زعيم القاعدة ظلم الواحد بالمئة المتحكمين بالثروات ومستغلّي الشعوب، ويشير إلى طغيانهم وضرورة الوقوف في وجههم، خصوصاً بعد جائحة كورونا. يقف التنظيم إذاً إلى جانب ضحايا «النظام العالميّ الجديد»، فالمعركة حالياً «ضد التحالف العالمي والتحالف الإبراهيمي لقيادة اليهود تحت راية أميركا».

الواضح أن نظريات المؤامرة الخاصة بـ«الدين الجديد»، الذي يقال إن الإمارات تروج له، وجدت صدى لدى عابر سبيل، على رغم تأكيد الأزهر أنها ليست سوى اتهامات فارغة، لكن حميّة «الشباب»، بحسب عابر سبيل، استُنفرت للوقوف في وجه هذه القوة الدينيّة الجديدة في عالم يميل نحو القسمة والفرقة، ويهيمن عليه خطاب «القوّة الناعمة»، فالدين الإبراهيمي الجديد أشبه بـ«ناتو غربي ويهودي» ضد التيارات الإسلامية المتنوعة، على حد وصفه.

يحضر ترامب عدة مرات في الكتاب بوصفه «متهوراً» فتَّت وحدة شعبه، لكنه نجح بأن تفقد القضية الفلسطينية «الدعم العربي والإسلامي»، وهو ما تغيَّر بعد معارك الشيخ جراح وتهديد أسطورة القبة الحديديّة. ما حصل إذاً انتصارٌ سياسي لغزة، وهنا المفارقة، الضحايا غير مهمين طالما «القضيّة» تعود إلى مركزيتها.

يحافظ الكتاب على الرؤية التقليدية للعالم الفاسد التي خطّها سيد قطب في معالم في الطريق، إذ لابد من «إصلاح» الأرض لتكون مستعدة للإسلام، والملفت أن الإفساد لا يتمثل فقط في الغرب، بل في الحكومات العربيّة نفسها.

يوجه عابر سبيل اللوم إلى قطر كونها «جعلت استضافةً رياضيّةً نقطة انطلاق للخصومة بين سكان جزيرة العرب، بل يبدو أن الرياضة كمفهوم ونشاط بشريّ تُفتّت الشعوب وتلهيها عن أزماتها»، في إشارة ربما إلى الجدل الذي يرافق مباريات كرة القدم بين منتخبات شمال إفريقيا، والذي يرى عابر سبيل بأنه جزء من استراتيجية «صناعة الجهل» التي يمارسها «الطغاة»؛ كقيس سعيد وعبد الفتاح السيسي. ولا بد أن نذكر أن لا إشارة لبشار الأسد ونظامه، فربما القاعدة «مطموزة» من فك الجولاني الارتباط بها وتغيير اسمها من «جبهة النصرة» إلى «جبهة فتح الشام»، فتركتهم في المعركة لوحدهم.

الحياد في الصراع العالمي و«المؤامرة» ضد «الربيع العربي» 

يعترف عابر سبيل بهزيمة الربيع العربي، مركزاً بصورة كبيرة على الثورة المصرية التي قرر «الغرب واليهود وحكام الخليج» إفشالها، والفشل هنا مرتبط بإسقاط محمد مرسي خوفاً من انتقال عدوى الربيع العربي إلى دول الخليج. الثورات من وجه نظره تعني إيصال الإخوان المسلمين، لا الإسلاميين «عبيد حاكم الرياض، وشيوخ الأمن، وشاوشية الأزهر… وما يسمى الإسلام السياسي والإسلام العلماني»، فالدرب الصحيح لنجاح أي ثورة هو تجهيز مؤسسات بديلة جاهزة للعمل لحظة اندلاع الثورة واستبدال النظام القائم، أما فيما يخص الحرب الروسية-الأوكرانية فيجب على «الجنوب» أن «يتعقّل» ولا يتورط في صراعات إقليميّة أو ينحاز لأيّ طرف.