في رأي المحلل والكاتب السياسي في صحيفة “نيويورك تايمز” توماس فريدمان، هذه السخرية من الطبع المتناقض لترامب، والذي يجعله مجنوناً، ليست دقيقة فحسب، بل يمكن تطبيقها على نطاق أوسع.
فهو في يوم ما يُبعد أوكرانيا؛ وفي اليوم التالي، يبتزها من أجل الحصول على معادنها؛ فتعود إلى الحظيرة الاميركية.
ويوماً ما يكون فلاديمير بوتين صديقاً له، وفي اليوم التالي، يكون “مجنوناً”.
في يوم ما يعلن إن كندا ستكون الولاية رقم 51، وفي اليوم التالي، تصبح هدفاً للتعريفات الجمركية.
يتفاخر بأنه يُوظّف “أفضل” الأشخاص فقط، وفي اليوم التالي، يتم طرد أكثر من 100 خبير من مجلس الأمن القومي من المعينين حديثاً… وغير ذلك.
يقول محللو “وول ستريت” مزاحاً بأن أفضل طريقة للتنبؤ بسلوك الرئيس دونالد ترامب – وكسب المال في هذه العملية – هي من خلال ممارسة “تجارة تاكو”
وفقاً لفريدمان يحكم ترامب بدوافع غريزية جامحة، من دون دراسة أو تنسيق بين الوكالات. لا يحترم أي حدود حقيقية للسلطة. يجعل صديقه في لعبة الغولف (ستيف ويتكوف) وزيرًا للخارجية، ووزير خارجيته (ماركو روبيو) سفيرًا له في بنما. يُجبر أي شخص يريد إيقافه على مقاضاته، بينما يلغي جميع الخطوط الفاصلة بين واجباته القانونية وثوته الشخصية.
هذا الأمر يعني، في رأي فريدمان، أن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد محكومة من قِبل إدارة أميركية تقليدية. بل إن مؤسسة ترامب هي من تحكمها.
ويكتب: “في عهده الأول، أحاط الرئيس نفسه بشخصيات مؤثرة لها دور مقيد. أما في عهده الثاني، فقد أحاط نفسه فقط بمتملقين يتصرفون كمكبرات للصوت. في عهده الأول، أدار إدارة عادية، وإن كانت فوضوية. أما في عهده الثاني، فقد أصبح رئيساً حراً طليقاً، يدير حكومة الولايات المتحدة تمامًا كما كان يدير شركته الخاصة. وهذا صحيح لأن الديمقراطيين اليوم ضعفاء للغاية، والجمهوريون جبناء للغاية، وشركات المحاماة الكبرى مفلسة أخلاقياً، والبيروقراطيون الحكوميون عاجزون عن التصرف. وإذا كان شعار ترامب الأول “حان دورنا للحكم”، فإن شعار ترامب الثاني هو شعار الأنظمة الأفريقية الديكتاتورية: “حان دورنا لنأكل”.
أسلوب حكم ترامب، بحسب فريدمان، متسرع – شعاره “أطلق، استعد، صوّب” – دون أي تفكير بالتالي. فهو بعد أسابيع من توليه منصبه، أعلن عن سلسلة من التعريفات الجمركية العالمية دون أي مشاورات جادة مع صناعة السيارات الأميركية. ثم اكتشف أن حوالي ثلث أجزاء سيارة فورد F-150 الشهيرة فقط تُصنع في أميركا. كانت التعريفات ضربة موجعة لصناعة السيارات بأكملها. وكان رد فعل الصين متوقعاً على الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب بنسبة 145% على جميع الصادرات الصينية إلى أميركا. أوقفت بكين فجأة صادرات المغناطيسات الأرضية النادرة التي تدخل في صناعة السيارات والطائرات بدون طيار والروبوتات والصواريخ الأميركية. وإذا لم يجد ترامب طريقة للتوصل إلى اتفاق (أي “التراجع”) بشأن بعض تعريفاته على الصين، فقد تضطر مصانع السيارات الأميركية إلى خفض الإنتاج “في الأيام والأسابيع المقبلة”.
وفقاً لفريدمان يحكم ترامب بدوافع غريزية جامحة، من دون دراسة أو تنسيق بين الوكالات
لا يراهن فريدمان على احتمالات أن يكون ترامب قد توقع هذه العواقب غير المباشرة لرسومه الجمركية على الصين. وفي رأيه أن ترامب تصرف دون تفكير.
ويحذر من أن الأمور تزداد سوءًا.. إذ أن هوس الرئيس اليميني السخيف بتدمير صناعة السيارات الكهربائية الأميركية التي كان الرئيس جو بايدن يحاول تطويرها يقوض جهود الولايات المتحدة للتنافس مع الصين في مجال البطاريات الكهربائية التي تعتبر بمثابة النفط الجديد؛ فهي ستغذي النظام البيئي الصناعي الجديد للسيارات ذاتية القيادة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والطائرات بدون طيار، والتكنولوجيا النظيفة.وهو ما من شأنه، بحسب الخبير الاقتصادي نوح سميث، أن يضعف قدرة الولايات المتحدة على بناء نوع الطائرات بدون طيار الرخيصة التي تعمل بالبطاريات والتي استخدمتها أوكرانيا لتدمير جزء من الأسطول الجوي الروسي— والتي يمكن للصين أن تستخدمها بنفس الطريقة ضد حاملات الطائرات الأميركية. وبالتالي فإن ما فعله في الواقع هو نزع سلاح الطائرات المسيرة المستقبلية الأميركية بشكل أحادي، والتخلي للصين عن السلاح الرئيسي في ساحة المعركة الحديثة.”
مثال آخر على تسرع ترامب، بحسب فريدمان هو إعلانه أنه سيضاعف الرسوم الجمركية على الصلب الأميركي إلى 50%. وذكّر بما حدث حين اتخذ ترامب مثل هذه الخطوة في ولايته الأولى عندما رفع الرسوم الجمركية على الصلب فجأةً إلى 25%. فأضافت هذه الرسوم في البداية حوالي 6000 وظيفة إلى القوى العاملة في صناعة الصلب الأميركية، وفقًا لمكتب الإحصاء،ولكن بحلول نهاية عام 2019، تلاشت هذه المكاسب ، مما أدى إلى فقدان حوالي 75000 وظيفة في قطاع التصنيع الأميركي، وفقًا لدراسة أجراها مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي. لماذا؟ لأن الوظائف في الولايات المتحدة أكثر عدداً في القطاعات التي تستخدم الصلب مقارنة بتلك التي تنتجه.
وماذا عن استراتيجية ترامب التعليمية؟
بالنسبة لفريدمان، لا يُمكن بناء جدار تجاري فعال ضد الصين ما لم يكن هناك استراتيجية تعليمية لزيادة صناعتنا التحويلية المتطورة. ويشير في هذا السياق الى تركيز الجامعات الصينية بشدة على تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، فتخرّج سنوياً حوالي 3.5 مليون خريج في هذه المجالات، ما يقارب عدد خريجي برامج الزمالة والبكالوريوس والماجستير والدكتوراه في جميع التخصصات في الولايات المتحدة. بينما وفي المقابل، تعاني الولايات المتحدة من نقص صارخ في عدد المهندسين ما يضعف قدرتها على التنافس في اقتصاد المستقبل الذي يُحركه الذكاء الاصطناعي. وكانت تسد هذا النقص من خلال قبول عشرات الآلاف من طلاب الهندسة والمهندسين من الصين والهند على وجه الخصوص.
لا يراهن فريدمان على احتمالات أن يكون ترامب قد توقع هذه العواقب غير المباشرة لرسومه الجمركية على الصين. وفي رأيه أن ترامب تصرف دون تفكير
يستبعد فريدمان ان يكون ترامب في عواقب تصرفه حين أشعل حربًا تجارية تكنولوجية مع الصين – التي تسيطر على حوالي 30 في المائة من التصنيع العالمي، أي نحو ضعف الولايات المتحدة – في الوقت نفسه الذي يحاول فيه سحق مراكز الأبحاث الأميركية الرائدة، بينما يتعهد وزير خارجيته “بإلغاء تأشيرات الطلاب الصينيين”. ويتم تعيين مسؤولًا في المصارعة المحترفة أشار إلى الذكاء الاصطناعي باسم “A1” – مثل صلصة اللحم – وزيراً للصحة.
يعتبر فريدمان أن ما ميز الولايات المتحدة وأغناها لسنوات عديدة – وأبقاها القوة الاقتصادية والعسكرية العالمية المهيمنة – هو قدرتها على استقطاب المزيد من العلماء أو المهاجرين الطموحين، والاستثمارات الإضافية، وثقة الحلفاء. لكن وبحسب نادر موسوي زاده، مؤسس شركة للاستشارات الجيوسياسية ” تخاطر الولايات المتحدة بهذه العناصر الثلاثة وتتصرف اليوم كما لو انها غريبة ومنبوذة عن نظام عالمي هي في الواقع من وضع أسسه. والمزيد من الناس بدأوا يتساءلون: هل نحن حقاً الصخرة التي ظنوا أننا عليها؟”.
إقرأ أيضاً: التزوير من أجل عظمة إسرائيل (2/2)
باختصار، يكتب فريدمان فإن ما نراه من إدارة ترامب الثانية، وكونغرسها المُنهك، هو مهزلة خطيرة، غير منضبطة، ومتناقضة فكرياً سندفع ثمنها غالياً في المستقبل. يتخذ رجل واحد، لم يُعِدّ دراسةً شاملة، ولم ينفذ أي نموذج أو اختبارات ضغط، خطواتٍ جيواقتصادية كبرى، ولم يُشجّع على التعاون بين الوكالات بشكل واضح، دون إشرافٍ من الكونغرس أو مرجعٍ واضحٍ للتاريخ. وهذا أمر خطير.
لقراءة النص بلغته الأصلية اضغط هنا