شكّل الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي في اكتشاف عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 صدمة عالمية، فالمعروف أن إسرائيل تحكم قبضتها على مفاصل حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزّة، ناهيك بأن إسرائيل إحدى أهم الدول على مستوى تقنيات التجسس، فهل تبقى هذه الصناعة على حالها بعد الحرب؟

شكّل الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي في اكتشاف عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 صدمة عالمية، فالمعروف أن إسرائيل تحكم قبضتها على مفاصل حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزّة، ناهيك بأن إسرائيل  إحدى أهم الدول على مستوى تقنيات التجسس، واقتصادها يعتمد بشكل كبير على قطاع تكنولوجيا التجسس، التي تطوَّر بداية في”الموساد”، ثم  تتبناها شركات خاصة تبيعها لحكومات قمعية وديمقراطيّة تستفيد منها في  التجسس على أهدافها، كما كشفت تحقيقات “بيغاسوس” و“بريداتور” التي شارك فيها “درج”، والتي سلطت الضو ء على استخدام هذه التقنيات  للتجسّس على الصحافيين والخصوم السياسيّين. الّا أنّ أبرز ضحاياها هم الفلسطينيون أنفسهم.

الحرب الحالية تخفّض قدرة إسرائيل التجسّسية

يشكل 18 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي وما يقارب نصف إجمالي تصديره و30 في المئة من دخل الدولة من الضرائب. لكن خلال هذه الحرب، لجأت إسرائيل الى تجنيد أكثر من 300 ألف جندي احتياطي، وهو الرقم الأكبر الذي تستدعيه إسرائيل في تاريخها، أي أكثر من 300 ألف شخص من اليد العاملة أو الطلاب في إسرائيل أو خارجها طُلب منهم ترك أعمالهم ودراستهم للخدمة في جيش الاحتياط.

على رغم غياب تصريح رسمي بشأن نسبة اليد العاملة في قطاع التكنولوجيا من إجمالي اليد العاملة التي استُدعيت للاحتياط، إلا أن  تقدر أن 15 في المئة من العاملين في قطاع التكنولوجيا استُدعوا للخدمة في الجيش، ما أثّر على قدرة إسرائيل على تلبية حاجات زبائن شركات التكنولوجيا لديها من جهة، وزعزع أمن مراكز الأبحاث والإنماء التي تعمل على مشاريع في إسرائيل، ومنها مايكروسوفت وغوغل، من جهة أخرى.

على سبيل المثال، نشر عالم في مركز مايكروسوفت في إسرائيل للبحوث والإنماء، تومر سايمون، على موقع Calcalist الإسرائيلي،  موجّهة إلى مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي، معرباً فيها عن قلقه إزاء مستقبل التكنولوجيا في إسرائيل بعد هذه الحرب.

من جهة أخرى، تستغلّ إسرائيل الاجتياح البري لتجمع بيانات الغزاويين. إذ نشر أحد القاطنين في غزة، براء المقيد، على صفحته على إنستغرام: “بنى جنود الاحتلال شبه بوابة في الشارع الذي يعبره الفلسطينيون المهجرون من شمال القطاع إلى جنوبه. يُجبَر الفلسطينيون على اجتياز بوابة العبور هذه والوقوف أمام 8 كاميرات تتفحص العابرين وأغراضهم. ويجبرهم جيش الاحتلال على رفع هوياتهم للكاميرا للحصول على أسمائهم وأعمارهم وحالتهم الاجتماعية”.

فلسطينيو الداخل حقل تجارب لتقنيات التجسّس الإسرائيليّة

مثلما تختبر إسرائيل أسلحتها على الفلسطينيين، تختبر أيضا أسلحتها التجسسية للوصول الى ملفات المؤسسات والناشطين الفلسطينيين في الداخل، من بينهم أُبي العبودي، المدير التنفيذي لمركز بيسان للبحوث والإنماء، الذي اخترقت إسرائيل هاتفه ببرمجية بيغاسوس في 2 شباط/ فبراير 2021.

يرجح  العبودي أن هذه التقنيات التي تطورها إسرائيل تطاول دولاً عدة وليس فقط الفلسطينيين. ويوضح ،”ادعاؤنا كمنظمة هو أن ما يتم تطويره لقمع الشعب الفلسطيني، سيتم أيضاً استخدامه لقمع شعوب أخرى، حتى في ما يسمى بالديمقراطيات الأوروبية، وهذا واضح وصريح”.

بالفعل، طاولت تقنيات التجسس ناشطين وصحافيين أوروبيين. على سبيل المثال، خُرق  أكثر من 60 هاتفاً لمحامين من كاتالونيا بنظام التجسس الإسرائيلي بيغاسوس. في مقابلة في صحيفة The New Yorker، صرح  شاليف هوليو، أحد مؤسسي شركة NSO Group الإسرائيلية المصنعة لتقنية بيغاسوس، أن ” جميع حكومات أوروبا تقريباً تستخدم تقنياتنا”.

بالتوازي مع  التضييق السيبراني، تواصل إسرائيل تضييقها على الأرض، إذ تعرضت مؤسسة بيسان لعدد كبير من الاختراقات. وما زالت تتعرض لمحاولات اختراق تستهدف بريدها الإلكتروني. تم الهجوم على الموقع بين عامي 2019 و2020، وتعرض لعدد كبير من الاختراقات التقنية. كما اقتحمت القوات الإسرائيلية المؤسسة مرتين، وسرقت الحواسيب وكل الأجهزة الإلكترونية الموجودة في المؤسسة، من بينها آلات التصوير والإضاءة، وفق ما قال العبودي لموقع “درج”.

يضيف العبودي، “هناك هجوم منهجي من الاحتلال بما يخص الاختراق والاستهداف الإلكتروني. وحتى اليوم، يتعرض موقع المؤسسة وصفحاتها لاختراق يومياً”.

التجسّس كـ”دفاع عن النفس” في الداخل 

تحت حجة الدفاع عن مواطنيها، تستخدم إسرائيل اجهزة مراقبة  وجمع المعلومات على سكان الضفة والقدس الشرقية بينما يعبرون نقاط التفتيش، من بينها نظام تعرّف إلى الوجوه يحمل اسم “الذئب الأحمر”، وهو نظام مراقبة بيومتري يقوم على تصوير الفلسطينيين العابرين نقاط التفتيش (بعض الأحيان رغماً عنهم) وتصوير نسخ عن هوياتهم لخلق قاعدة بيانات عن الفلسطينيين في الضفة الغربية وشرق القدس. وقبلها بعامين، بدأت إسرائيل باستخدام تطبيق “الذئب الأزرق” للأهداف التجسسية ذاتها قبل تطوير تطبيق أحدث.

بحسب تقرير  لمنظمة العفو الدولية، “قبل عام 2021، كانت تكنولوجيا التعرف على الوجه تُستخدم فقط على نقاط التفتيش، لكن منذ عام 2021، باتت بين يدي كل جندي على هاتفه الخليوي. إذ يمسح الجندي وجوهنا بالكاميرا على هاتفه، وفجأة يتغير سلوكه نحونا، لأنه يرى المعلومات كافة”.

يحمل الجندي الصورة على التطبيق الذي يعكس ثلاثة ألوان، لكل لون رمزيته: الأصفر يعني أن الفلسطيني يجب توقيفه، والأحمر يعني أن الفلسطيني يجب اعتقاله فوراً، أما الأخضر فيعني أن الفلسطيني يمكن أن يمر بحسب صحيفة واشنطن. بوست  وصرح أحد الجنود أنهم كانوا يتبارون لجمع العدد الأكبر من الصور للحصول على يوم إجازة. حتى أن الجنود كانوا يجمعون ما يقارب 1,500 صورة أسبوعياً.

وتستخدم إسرائيل شبكة كاميرات مغلقة تحت إسم “مدينة الخليل الذكية” التي تراقب من خلالها تحركات جميع القاطنين في الخليل. وكما صرح  أحد الجنود السابقين في الجيش الإسرائيلي، بإمكان كاميرات المراقبة هذه أن تنقل صوراً من داخل بيوت الفلسطينيين أحياناً. بالإضافة إلى كاميرات المراقبة التي تطوق الحواجز العسكرية، والتي قد يصل عددها إلى 24 كاميرا على الحاجز الواحد، كحاجز 56 في المنطقة ه2 في الخليل. وبإمكان هذه الكاميرات التقاط صور لجميع السيارات في الضفة، ما يسمح للجنود بمطابقة السيارة من خلال صاحبها حتى من دون معرفة رقمها.

أخيراً، تعمد إسرائيل إلى استخدام كاميرات المراقبة التي يضعها المستوطنون على بيوتهم ومتاجرهم، كما توضح وعد عباس من منظمة العفو الدولية في فلسطين، في مقابلة لموقع “درج”.

نظام المراقبة هذا ممنوع في الدول الأوروبية والكثير من الولايات الأميركية بسبب أخطاء قد تحصل بالمطابقة أو بسبب خرق الخصوصية، إلا أن إسرائيل تتذرع لاستخدامه بحجة “الدفاع عن النفس”. عام 2016، أطلقت إسرائيل تطبيق “الذئب الأبيض” المتوافر بحوزة المواطنين، والذي يمكّنهم من جمع صور الفلسطينيين ومعلومات عنهم.

مايكروسوفت شريكة في المراقبة 

عام 2019، شركة M12، الذراع الاستثماري لشركة مايكروسوفت، في شركة AnyVision الإسرائيلية حديثة النشأة حينها، وذلك تطبيقاً لمبادئ مايكروسوفت الستة لتوجيه عمل الأخيرة في مجال التعرف على الوجوه. بلغت قيمة الاستثمار 78 مليون دولار أميركي.

تعاونت الشركة الإسرائيلية مع الحكومة لتطوير تكنولوجيا على نقاط التفتيش الحدودية التي تفصل مناطق الضفة الغربية. الشركة الإسرائيلية AnyVision طورت تقنية مراقبة تحمل إسم  تتيح لمستخدميها التعرف على الوجوه عبر الهاتف أو عبر كاميرا للمراقبة ورصد تحركات أهدافها.

أصدرت شركة Covington & Burling الأميركية تقريراً جنائياً عن شركة AnyVision، تبين فيه أن نظام المراقبة الذي طورته الشركة الإسرائيلية لا يمتلك “قدرات مراقبة واسعة”. لكن تشير التقارير التي نشرتها وسائل إعلامية إسرائيلية وعالمية منها  وموقع   الإسرائيلي، إلى استخدام تقنية Better Tomorrow لمراقبة الفلسطينيين في الضفة. بالإضافة إلى حصول المؤسسة على جائزة الدفاع الإسرائيلية سنة 2018 لـ”إحباطها مئات الهجمات الإرهابية” بحسب ما  به وزارة الدفاع، ما أثار الرأي العام ضد شركة مايكروسوفت التي سحبت استثماراتها من AnyVision الإسرائيلية.

كما أن الشركة نفسها تحوّلت إلى شركة للأمن. وخلال الأشهر الستة السابقة، انخفض عدد موظفين أوستو 15 في المئة بحسب 

عيون للسلطة الفلسطينيّة في الضفة 

تتقاسم إسرائيل والسلطة الفلسطينية مراقبة أهالي الضفة. تروي الصحافية والناشطة الفلسطينية فاتن علوان لموقع “درج”، تجربتها مع خرق حسابها على فيسبوك: “خرق حسابي على فيسبوك وإنستغرام وحذفت منشورات عدة أوثق بها اعتداءات الأجهزة الأمنية الفلسطينية. أتهم السلطة الفلسطينية والأجهزة الأمنية لأن الخرق كان جزءاً من حملة تقودها السلطة ضد الصحافيين الفلسطينيين من خلال إسكات الصوت الفلسطيني”.

اعلنت  ميتا قبل عامين أنها أوقفت عمل مجموعتي تجسّس في فلسطين. وأضافت أن إحدى المجموعتين تحمل إسم “أريد فايبر” بينما الأخرى تابعة لجهاز، وهو جهاز أمني أنشئ بعد توقيع اتفاقية أوسلو سنة 1996 ويتبع للسلطة الفلسطينية، ويقوم بإدارة عمليات تجسسية سرية بهدف حماية الأمن الوطني. وهو الجهاز الذي اعتقل  الناشط نزار بنات عام 2021، الذي مات “تحت التحقيق”. ينسق أيضاً جهاز الأمن الوطني الفلسطيني مع إسرائيل، وقد درّبته سابقاً وحدة استخبارات أميركية خاصة في الأردن.

حصريّة التجسّس بلا وسيط

بعد وثائق بيغاسوس، تجد الشركات الإسرائيلية صعوبة في إيجاد زبائن لها بعدما أدرجتها الولايات المتحدة على اللائحة السوداء، وأيضاً بسبب سمعتها الرديئة نتيجة مخالفتها اتفاق حكومات أوروبية عدة مع الحكومة الإسرائيلية، والذي ينصّ على منع شركات التجسس الإسرائيلية من استخدام هذه التقنيات على مواطنيها.

وبينما يجد الصحافيون والمدافعون عن حقوق الإنسان في الدول الأوروبية حكومات تستنكر اختراق هواتفهم واستخدام برمجيات التجسس الإسرائيلية ضدّهم، يبقى الفلسطينيون الضحايا الأسهل والأكثر تضرّراً من تقنيات إسرائيل التجسسية.