“الادعاءات الاستثنائية تتطلب أدلة استثنائية”. لا ضرر في تطبيق قول العالِم الأميركي كارل سايغان على بعض المزاعم في العالمين السياسي والإعلامي، خصوصاً حين ترتبط بمحاولة اغتيال رؤساء دول.
اتهم الإعلامي الأميركي تاكر كارلسون الرئيس السابق جو بايدن بمحاولة اغتيال نظيره الروسي فلاديمير بوتين. بالرغم من خطورة الاتهام، لم يقدم كارلسون أي دليل خلال حديثه مع الإعلامي مات تايبي: “كان أنتوني بلينكن (وزير الخارجية الأميركي السابق)، يدفع بقوة نحو إثارة حرب حقيقية، حتى من خلال محاولة اغتيال بوتين على سبيل المثال. ماذا فعلَت إدارة بايدن – لقد حاولوا قتل بوتين”. ولم يحاول تايبي استيضاح مصدر معلومات كارلسون مكتفياً بسؤال “حقاً؟”
ردّ الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف على مزاعم كارلسون قائلاً إن “وكالات الاستخبارات الروسية تتخذ جميع الإجراءات الضرورية لضمان أمن وسلامة جميع من هم تحت حماية الدولة، خصوصاً رأس الدولة”.
ما يطرح علامات الاستفهام حول مزاعم كارلسون هو صعوبة تسرب قرار كهذا، على افتراض وجوده، إلى سياسيين وإعلاميين بعيدين من المحيط المباشر للرئيس، ناهيكم عن أشد المعارضين له. وثمة سؤال وجيه آخر عن سبب عدم حصول الاستخبارات الروسية ولو على مؤشرات من هذا النوع.
إذا كان لظاهر سياسات بايدن أن يكشف أدلة عن مزاعم الإعلامي الأميركي، فالأدلة قليلة، هذا إن وُجدت. وهي بالتأكيد ليست “استثنائية”.
النمط واضح
قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، قال بايدن جملته الشهيرة التي أوحت بأن ردة فعل أميركا “ستعتمد على ما تفعله” روسيا كما هي الحال مع “توغل صغير”. بعد الغزو، عرض بايدن على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تأمين طائرة له تنقله إلى الخارج، لكن الأخير رفض. وأثار البطء في مد كييف بالأسلحة إحباطاً بين الأوكرانيين والسياسيين المؤيدين لها، وغالباً ما كانت المساعدات تأتي في وقت متأخر وبكمية قليلة؛ هذا إلى جانب أن الإدارة منعت كييف من استخدام الأسلحة ضد الأراضي الروسية، إلا بعد خسارة الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة.
ما يؤكد هذا النمط من الحذر الأميركي في التعامل مع روسيا هو أن الإدارة الديموقراطية السابقة طلبت من أوكرانيا وقفاً للعمليات السرية داخل روسيا حين أطلق زعيم “فاغنر” السابق يفجيني بريغوجين تمرداً قصير الأجل ضد موسكو في أواخر ذلك الشهر. وطلبت واشنطن من كييف عدم فعل أي شيء للتأثير على ذلك الحدث أو حتى للاستفادة منه، بحسب “نيويورك تايمز”. كان واضحاً إلى حد بعيد أن بايدن خشي إثارة أي خلل في الاستقرار الداخلي لروسيا.
حسابات جوهرية أخرى
كانت صناعة القرار في البيت الأبيض مأخوذة بهاجس إدارة التصعيد أولاً كما بهاجس الاضطرار إلى التعامل مع روسيا مضطربة حيث يمكن أن تسقط ترسانتها النووية بين الأيادي الخطأ في حال حدوث حروب أو تقسيم. ويشكك البعض حتى في أن بايدن كان يريد إلحاق الهزيمة بروسيا.
يدرك الأميركيون على الأرجح أن التخلص من بوتين لن يحل قضية الحرب ولن يخفف التوترات بين موسكو والغرب. في الواقع، وإلى جانب ترجيح مجيء شخصية أكثر تشدداً من الرئيس الروسي الحالي، ستخاطر أميركا بحرب نووية مباشرة مع روسيا في حال نفذت عملية اغتيال كالتي تحدث عنها كارلسون. وهذا ما كتبه أستاذ الدراسات الاستخبارية في جامعة جورج تاون دوغلاس لندن في مجلة “فورين بوليسي” الصيف الماضي. وأضاف لندن الذي خدم في مديرية العمليات ضمن وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) لمدة 34 عاماً أن الاستخبارات الأميركية والبريطانية متفقة على إمكانية التنبؤ بسلوك بوتين والتي ظهرت بالتحديد عندما توقعت تلك الاستخبارات أنه سيشن الحرب على أوكرانيا. ولفت إلى أن المقربين من بوتين سيتهمون أميركا باغتياله حتى من دون دليل.
“لسنا في فيلم”
ليس قرار اغتيال رئيس دولة أجنبية ولو غير نووية مسألة سهلة حتى ضمن الفريق الرئاسي الواحد. منع وزير الدفاع الأميركي الأسبق جيمس ماتيس الرئيس دونالد ترامب من تنفيذ رغبته باغتيال الرئيس السوري السابق بشار الأسد بعدما استخدم السلاح الكيميائي في خان شيخون سنة 2017. وبعد نفي أولي لهذا الخبر، عاد ترامب وأكد سنة 2020 أنه رغب بقتل الأسد لكن وزير دفاعه الأسبق وقف ضده. “لم يُرد ماتيس فعل ذلك. كان ماتيس جنرالاً يحظى بتقدير مبالغ به، وقد تركتُه يرحل” عن الإدارة.
أطلق بايدن انتقادات شخصية جارحة بحق بوتين لكن الأخير تجاهلها. مع ذلك، لم توحِ المعطيات بأن الرئيس السابق قد يذهب إلى حد اغتيال نظيره الروسي. قبل الحرب، عقد بايدن قمة رئاسية مع بوتين في سويسرا وأرسل موفدين أميركيين للتشاور مع نظرائهم الروس بخصوص الهواجس المشتركة. لا تؤيد هذه السلوكيات، إضافة إلى طريقة إدارة حرب أوكرانيا، ادعاءات كارلسون.
حتى قبل الوصول إلى تداعيات عمليات اغتيال رؤساء الدول، ليست مرحلة التخطيط سهلة على الإطلاق. فاغتيال رؤساء الدول عملية غير سلسة كما تصورها الأفلام بحسب لندن، المسؤول السابق في “سي آي إيه”.
لغاية اللحظة، ما من حجة متينة لأخذ تصريحات كارلسون على محمل الجد. ما إذا كان المستقبل سيكشف شيئاً رسمياً بهذا الصدد قضية أخرى.