جاء دونالد ترامب، ووصلت معه في الساعة الأولى لولايته عاصفة كبرى في العلاقات الداخلية للولايات المتحدة، وأخرى على العلاقات الدولية، أراد منها أن يتخفّف بلده من أعباء الشرق الأوسط الملحّة، قبل وصوله عملياً، ليستخلص الأضواء لنفسه وللميادين التي يراها أكثر أهميّة وإلحاحاً. لا يمكن الإحاطة بالفيلم المقبل وحبكته بعد، لذلك يبدو مفيداً محاولة فهم أجزائه أولّاً بأول، التي هي موضوع هذا المقال: أعني الشرق الأوسط وديناميكيّته الراهنة، وتلمّس ملامحها الأوليّة، أو لعلّها ملامح ملامحها.
لم يستطع أحدٌ تحديد ما قصده ترامب المعروف أساساً بإطلاق الكلمات جزافاً، حين ذكر «أبواب الجحيم» وفتحها على من يتلكّأ بالدخول في تهدئة حرب غزة، حتى لا تشوّش على احتفالات تنصيبه رئيساً، وصدمة قراراته منذ يومه الأول.
وكانت تلك الحرب آخر ما طرأ على هذا الشرق، ابتداءً من» طوفان الأقصى»، الذي أرادت حماس به تغيير « الستاتيكو» القائم، ذهاباً نحو عمق القضية الفلسطينية وتاريخها، وقد فعلت بالنتيجة، ولكن ليس بالاتّجاه الذي أرادته، أو تحدّثت عنه.
ما حدث بالفعل هو أن غزّة دُمّرت، وتحتاج كما يُقال إلى خمسة عشر عاماً حتى تعود، وليس معروفاً مدى بؤس شعبها في هذه الفترة، حتى لو قُيّضت له «إدارة رشيدة». ذلك سيكون أفضل ما يمكن، ويمكن ألّا يكون، لأنّ هنالك ترتيباً مختلفاً لأولويات الذين تسبّبوا بما حدث للقطاع: حكومة إسرائيل وقيادة حماس، وحتى السلطة الفلسطينية. من الناحية الاستراتيجية، أبعدت إسرائيل – نتنياهو احتمالات حلّ الدولتين، والأخير يقول إنه لن يقبل بذلك حتى يكون مضموناً أن الدولة الفلسطينية سوف تكون منزوعة السلاح تماماً. ويمكن التنبّؤ بأن الطريق إلى ذلك قد ابتعدت، مع إلغاء ترامب للعقوبات التي فرضتها إدارة بايدن على أكثر مستوطنيّ الضفة الغربية توحّشاً. إذا كان هنالك أيّ حلّ سوف يلوح قريباً فهو الحلّ الذي يتطلبّه مسار الاتفاقات الإبراهيمية، لأن اندماج السعودية في ما يراد للشرق الأوسط أن يبلغه، قد أصبح في مكان متقدّم لدى الولايات المتحدة، مع إنجاز معظم «التفاصيل»، لكنّ رضاها يبدو الآن مستحيلاً من دون تهدئة الخاطر الفلسطيني، شكلاً أو مضموناً.
وصلت مع ترامب في الساعة الأولى لولايته عاصفة كبرى في العلاقات الداخلية للولايات المتحدة، وأخرى على العلاقات الدولية، أراد منها أن يتخفّف بلده من أعباء الشرق الأوسط الملحّة
في لبنان، أنهى انتخاب قائد الجيش جوزيف عون بدعم خارجي، ثم تكليف نواف سلام برئاسة الوزراء بانتفاضة لبنانية كان طليعتها نواب ثورة 17 أكتوبر، مرحلةً طويلة من هيمنة حزب الله على الحكم والدولة تحت التهديد والترهيب الدائمين، بالتنسيق مع نظام الأسد وتحت إمرة الوليّ الفقيه، وفي غرفة عمليّات مع فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني، إضافة إلى احتكار حق التكلّم باسم الشيعة اللبنانيين مع انضواء حركة أمل تحت جناحه في تحالف مصالح متبادلة.
بالطبع لم يكن ذلك ممكناً، لولا تحجيم إسرائيل لحزب الله بشكل كبير واستكمال ذلك بضغوط فرنسا والولايات المتحدة، ضمن أجواء تراجع إيران إلى أراضيها عموماً وانكفائها بعد عصر عاصف من تصدير الثورة، استفحل في شكله «محور المقاومة». المهم في ذلك ما حقّقه لبنان من إقلاع لورشة تغيير شاملة من الوارد نجاحها، لتعطي مثالاً مهمّاً على هزيمة تنجب انتصاراً، وتعيد لبيروت شيئاً من ألقها وإشعاعها، شيئاً غير معروف المدى بعد، لكنه أضاف للتغيير العاصف في المنطقة بعض الهواء النقي، الذي قد يساعده على مسيرته الصعبة. نجاح عملية تشكيل الحكومة بشكل يعكس ذلك التغيير والأفق الجديدين، يمكن أن يمهّد لتكريس تلك العملية ونجاة لبنان، بعد نجاة معظم جسم حزب الله وبقائه تهديداً ملتبساً بأيام أخرى من نوع 7 مايو.
يبقى أن التغيير العنيف من حيث الشكل والسلميّة والسرعةً كان في سوريا، مع زحف هيئة تحرير الشام من إدلب وسقوط الفوج 46 قرب قرية أورم الصغرى، إلى حلب، ودخولها هنيئاً مريئاً، ثم تعقيد الأمور ليومين أو ثلاثة أيام عند جبل الأربعين قبل حماة، فحماة ثم حمص ودمشق من دون مقاومة حقيقية على الإطلاق، بانحلال الجيش وأجهزة أمن النظام السابق وفرار قادته.
فوجئت هيئة تحرير الشام بحجم ونوع المهام التي يفترضها وقوع السلطة والدولة على أيديها كالسقوط الحر، مع تركيبتها المعروفة ذات التقاليد والعقائد الأقرب إلى الانغلاق بطبيعتها. وكانت قد تحوّلت كما يبدو عن كونها منظمة إرهابية منحدرة من «داعش» و»القاعدة» و»النصرة»، إلى منظمة تحاول التكيّف ما استطاعت، بقيادة قائدها الذي كشف عن اسمه وهجر «اليونيفورم» القديم. وهي رغم فاعليّتها الكبيرة المتميّزة عسكرياً، منظّمة محدودة لا تُقارن بما لدى النظام، ومشكوك بأهليّتها لما تتنطّح له، ما لم تدخل في برنامج انتقال سياسي متقدّم وتقتنع بالمشاركة، وتأخذ بما يقدْم إليها من نصائح داخلية وخارجية.
ولأنّها تقاوم ذلك حتى الآن عملياً، فقد واجهت وتواجه مشاكل لا تُحصى، في الوقت الذي تتعرّض به لأسئلة ومسائل كبرى، وأوّلها سؤال قواعد الحكم أو الأساس الدستوري: فهي لا تستطيع اعتماد دستور الأسد، حتّى لو عطّلت بعض مواده، ولن يكون ممكناً اعتمادها على مؤتمر وطني – أو تأسيسي- حتى لو صاغته على قياسها، كما يبدو حتى الآن، ما دامت ترفض وتتهرّب من استحقاق تمثيل القوى ذات العلاقة بالسياسة والمعارضة، وتستمرّ بدعوتهم إليها كأفراد، على طريقة النظام الذي كان نصيبها أن أسقطته، أو ذكّرته بأن يسقط وينتهي.
انتهى الائتلاف الوطني في أيام ازدهاره النسبي إلى تقريظ دستور 1950 وضرورة اعتماده مؤقتاً قبل أية مرحلة انتقالية، ويعود الآن هذا الاقتراح إلى الحياة، من دون صدى لدى الحكام الجدد. إن اعتماد ذلك الدستور كآخر مستند قانوني للدولة قبل الانقلابات عليه، يحمل شرعية ما، تكفي في الظروف الراهنة، بينما تخفي محاولة وضع إعلان دستوري، أو مبادئ يصدرها مؤتمر ملتبس التكوين، نيّة غير صحية للاستبداد بالأمر، أو إغراقاً في نزاعات خانقة في غير أوانها ولا يريدها أحد.
وليس هنالك من وقت لصراعات جديدة، تُضاف إلى مشاكل الأمن والاستقرار، وقضايا استعادة وحدة سوريا المصيرية. ففي الشمال الغربي تتشبّث تركيا بالأرض وبحربها لاستكمال هندستها ديموغرافياً، بل ربّما أكثر من ذلك كما توحي تصريحات الزعامات السياسية هناك. تستهدف تلك السياسات نفسها الضغطَ على الشمال الشرقي ومناطق الإدارة الذاتية التي تتمتّع بدعم أمريكي وغربي، وبقوات كبيرة نسبياً ومدرّبة وقادرة، إلى جانب بنية إدارية متماسكة، رغم كلّ الملاحظات عليها، وما يحدث هو أنها تعرض مبدأ التسويات مع دمشق وأنقرة بوساطات أمريكية، ويقابلها التصلّب والتهديد حتى الآن.. بانتظار انتصار مبدأ المصالحة والتوافق والتنازلات وتبديد الهواجس بين كلّ الأطراف.
تلك فجوات في وحدة البلاد وسيادتها ينبغي ردمها أصولاً، وهي ليست وحيدة، بل يدعمها وجود ابتعاد نسبي ما بين المركز والسويداء، وبينه وبين درعا، وكذلك بينه وبين السيطرة في البادية السورية بوجود خلايا داعش. (وبمناسبة الحديث عن داعش وأخواتها، يبدو أن هنالك أطرافاً متفرّقة في غزّة وسوريا أكثر حرصاً من «إدارتيهما» على تفجير قنابل موقوتة على أحلام أكثر تطرّفاً ودموية. وذلك طبيعي، ما دامت الإدارتان لا تتركان تلك الأطراف سائبة لتقوم بالمهام الأكثر إشكاليةً وفضيحة).
كانت التغييرات المذكورة كلّها- ومعها ما يجري للتغيير الخاصّ بالعراق- جزءاً من هزيمة محور الممانعة على يد إسرائيل، ولكن برضا لا يريد أي شعب أن يعترف به مباشرة، ولا أية حكومة أو سلطة في الإقليم كلّه. إن حماس وحزب الله ونظام الأسد والجناح الإيراني من الحشد الشعبي العراقي كلّها في طرف واحد كانت إيران وروسيا وراءه، لم تستطع نداءات التحرير والمقاومة والقضية الفلسطينية والعداء للإمبريالية أن تسعفه للمرة الأولى في التاريخ العربي الحديث. ذلك تغيير أيضاً، لا ولن يعني تغييراً في الحقوق الوطنية والإنسانية أو تخلّياً عنها.. بل هو حالة وعي جديدة، ليس هنا مكان مناقشتها، والدرس الذي تعطيه السياسات التركية والقطرية بذلك جدير بالتأمّل، على الفرق بينهما. تدأب السلطة السورية الجديدة على تكرار كونها «لا تشكّل خطراً على أيّ من دول جوارها، بما فيها إسرائيل»، على الرغم من تعدّيات الأخيرة الفاضحة الواضحة وبوادر نواياها للتوسّع في احتلالها. إنّ في ذلك الدأب حكمة كما يبدو، رغم الملاحظات عليه أيضاً وعلى غموضه!
لقد سئم العالم استنقاع الأحوال في هذه المنطقة، وملّ من ذلك أبناؤها أيضاً، لذلك يبدأ» التغيير» بمثل تلك السلاسة الغريبة.. من دون ضمانات موثوقة!
كاتب سوري