لم يبدّد نجاح المراحل الأولى من اتفاق وقف النار وتبادل الأسرى بين إسرائيل و”حماس”، مخاوف الفلسطينيين من عودة إسرائيل إلى استئناف حربها لاستكمال تحقيق هدفها المتمثّل بـ”القضاء” على الحركة، والناتجة من تهديدات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وتعهداته بتحقيق الهدف من جهة، والدعم الأميركي المفتوح والإفراج عن شحنة قنابل ثقيلة من جهة أخرى
.
ثمّة رأيان متضاربان. الأول يرجّح عودة إسرائيل إلى الحرب بعد تحرير أسراها من غزّة، واستكمال حملة ضرب تنظيمات إيران في المنطقة وتدمير “حماس” أكثر فأكثر، خصوصاً أن الأخيرة تنشط على خط إعادة هيكلة كتائبها وتجنيد العناصر، وينطلق هذا الرأي من وجود إدارتين يمينيتين متطرفتين في إسرائيل والولايات المتحدة وضغوط لاستكمال الحرب داخل تل أبيب.
الآخر يستبعد استكمال الحرب لجملة من الأسباب، على رأسها رغبة “حماس” في التزام اتفاق الهدنة بهدف ضمان استمراريتها في حكم قطاع غزّة، واقتناع نخبة إسرائيلية، وإن كانت محدودة، بعدم القدرة على إنهاء الحركة تماماً وإنما ضرب قدراتها العسكرية المتقدمة، ويرى هذا الرأي رغبة إدارة دونالد ترامب في إنهاء الحروب وإرساء التسويات الإقليمية و”الصفقات”.
تعي “حماس” أنها تقف أمام خيار وحيد هو التزام الاتفاق وعلى الأرجح الالتفات إلى الداخل الفلسطيني ومنافسة حركة “فتح” على السلطة، لأن الخيار العسكري ضد إسرائيل لم يعد يصلح خصوصاً مع انكفاء محور إيران عن المواجهة والدعم، لكن إسرائيل قد لا تقتنع بضمانات الحركة، وترغب في التوجّه إلى حلول جذرية أكثر استدامة، وهي تدمير أعمق للحركة.
الباحث الفلسطيني في الشؤون الإسرائيلية عادل شديد يفصّل الاتجاهيين، ويشير إلى غالبية إسرائيلية بقيادة نتنياهو “راغبة في استكمال الحرب” لكونها غير مقتنعة باتفاق وقف النار وشروطه، وترى فيه “مسّاً بمنظومة الردع الإسرائيلية والأمن القومي”، وبحسب شديد، “كلما تراجع عدد الأسرى الإسرائيليين في غزّة تراجع تأييد الهدنة وتعزّز اتجاه العودة إلى الحرب”.
وفي هذا الإطار، تنقل شبكة “بي بي سي” تشكيك يوحنان تسوريف، كبير الباحثين في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، احتمال استمرار الصفقة المتفق عليها، حال شروع الأطراف المعنية في المفاوضات “الحساسة” للمرحلة الثانية، “وتشمل انسحاب القوات الإسرائيلية بالكامل من القطاع”، خصوصاً أن الجيش الإسرائيلي لم ينسحب من لبنان برغم الاتفاق.
لكن عدم انسحاب إسرائيل من غزّة لا يعني بالضرورة عودة الحرب، فـ”حزب الله” لم يجدّد الاشتباكات رغم استمرارالوجود الإسرائيلي في الجنوب، وقد تحذو “حماس” الحذو نفسه، وذلك لسبب يتفق عليه المتابعون، وهو عدم قدرة الفصائل المسلّحة على مواجهة إسرائيل عسكرياً وسعيها المتواصل منذ أكثر من سنة للوصول إلى اتفاق وقف إطلاق نار، إلّا أن عدم الانسحاب قد يقابله تعقيد في الإفراج عن الرهائن، ما من شأنه أن يوفّر لإسرائيل سبباً لاستكمال الحرب.
لكن الأنظار وجب أن تشخص إلى المعطى السياسي والميداني الداخلي وإلى المعطيات الخارجية أيضاً، وفي هذا السياق، لا بد من التذكير بالجو الدولي الضاغط لإنهاء الحرب وتثبيت وقف إطلاق النار، والرغبة الأميركية المعلنة في استمرار هذا الاتفاق، في ظل تشديد ترامب على ضرورة “صمود اتفاق وقف إطلاق النار في غزة”، مؤكداً أن عدم استمراره “سيتسبب بالكثير من المشاكل”، أمام منتدى “دافوس”.
شديد يتحدّث لـ”النهار” عن تسوية محتملة قد تضمن استمرار وقف النار، وينطلق من طروحات ترامب لتهجير الغزيين وفي الآن عينه عقليته التي تؤمن بالتسويات، ويلمّح إلى عملية مقايضة وتسوية تقوم على “وقف خطط تهجير الفلسطينيين وإطلاق عمليات إعادة الإعمار في غزّة في مقابل تطبيع إسرائيل مع السعودية”، وهو اتفاق ستؤيده الغالبية الإسرائيلية وسيعطي نتنياهو دفعاً سياسياً.
في هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى أن السفير الإسرائيلي المعيّن حديثاً لدى الولايات المتحدة يحيئيل لايتر كشف في مقابلة خاصة مع صحيفة “جيروزالم بوست” أن إسرائيل “أقرب من أي وقت مضى” إلى التطبيع مع العربية السعودية، معتبراً هذا التطور “عامل تغيير في المنطقة وخارجها، من شأنه إنشاء إطار جديد للاستقرار الإقليمي، يرفض التطرف ويعزز التعاون”
في المحصّلة، فإن الكرة في الملعب الأميركي صاحب اليد العليا في إرساء التسويات وعقد الصفقات، ويعزّز وصول ترامب إلى البيت الأبيض هذا الاتجاه لأن العقلية الترامبية تقوم على مبدأ الصفقة لا تمويل الحرب، لكن طريق التسوية لن يكون سهلاً بل سيكون وعراً لأن التطبيع بين إسرائيل والسعودية محطّة مفصلية في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، وأثمانه باهظة.