محزن أن تتصدّر أخبار مواكب الشبّان على الـ”الموتسيكلات”، رافعين الأعلام الحزبية في مناطق لبنانية كالجميزة وعين الرمانة وفرن الشباك وبرج حمود وساقية الجنزير ومغدوشة وغيرها، الأخبار ومواقع التواصل
محزن أنّ تتحوّل الأنظار كلّها وفي لحظات إلى تلك المجموعات، في اليوم الذي توجّه فيه الأهالي إلى قراهم المحتلّة لدخولها بمواكبة من الجيش اللبناني بعد إصرار الجيش الإسرائيلي على البقاء فيها.
محزن أنّ القلق الذي نهش قلب أمّ ما زال ابنها مفقوداً في أرض الجنوب، نهش أيضاً قلب أمّ أخرى خشية أن يمرّ ابنها إلى جانب المواكب ويتعرّض لأذى.
محزن أن تسرق “الموتسيكلات” التي جالت في بعض المناطق اللبنانية “لغاية في نفس يعقوب” الأضواء من سيدة لبنانية تقف بمفردها أمام فوهة مدفع دبابة “ميركافا” إسرائيلية بثبات أثناء عودة النازحين إلى قرى الجنوب.
محزن أن يتوافد بعض أهالي منطقة البقاع، إلى جنوبي لبنان لملاقاة النازحين الذين هجّروا قسراً من قراهم لمشاركتهم فرحة العودة بعد شهور من الغياب، فيما غاب عن المشهدية هذه بعض أهالي المناطق اللبنانية الأخرى الذين احتضنوا النازحين طيلة فترة الحرب الإسرائيلية الشرسة، وغاب أيضاً من لم يحتضن هؤلاء بسبب انقسام سياسي حول حصرية السلاح بيد الدولة.
محزن أنّ معظم الأفرقاء والذين يدركون أنّ في لبنان “لبنانين” وربما أكثر، وأن فيه من توقّف الزمان عنده في تواريخ مشؤومة بين فريقين من البلد الواحد كانت تتقصد أن تنكأ الجراح المفتوحة منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة.
لم يعد مهمّاً إن كانت الدعوات التي وُجّهت إلى جمهور “الثنائي” عفويّة أم تقف وراءها أياد خفيّة، فتفلّت الأمور وخروجها عن مسارها كان متوقّعاً بعد الاحتقان المستمرّ على الأرض وعلى الشاشات وفي مواقع التواصل بسبب التعامل مع “حزب الله” وجمهوره طوال الأسابيع الأخيرة على أنّه مهزوم ويجب عزله، وردّات الفعل المتّصلة.
نعم، لو كان لبنان “بلداً واحداً” لكانت مرّت هذه المواكب مرور الكرام، وما كانت اعتُبرت استفزازية. لا بل وكان أهالي المناطق اللبنانية استقبلوها وانضموا إليها.
إلّا أنّ في لبنان من لم يعِ بعد أنّ مفردات “شيعة شيعة” و”ما بيشبهونا” ما عادت تصلح في بلد بات أبناؤه مخيّرين بين السيّئ والأسوأ، إمّا حرب إسرائيلية أو سرقة ونهب وفساد ومحاصصة واقتتال داخليّ. وفي كلّ الحالات المذكورة حياة إمّا مؤجلة أو معلّقة حتى إشعار آخر.
بات أبناؤه يحلمون بيوم عادي، عادي جدّاً، خالٍ من التهديد والوعيد، خالٍ من الهزيمة والانتصار، خالٍ من “تقريش” التغييرات الإقليمية في الداخل، خالٍ من الشتائم المتبادلة والشماتة على مواقع التواصل.
لا شيء يمكن أن يكون أكثر صدقاً، من الاعتراف أنّ هناك صفحة في تاريخ لبنان يجب طيّها، لا بإضاءة الشموع على جسر الرينغ ولا بمسيرات الأمّهات من الشياح إلى عين الرمانة، ولا عبر “بيّي أقوى من بيّك”.
وفي انتظار طيّ تلك الصفحة، على “حزب الله” أن يتفهّم أنّ بيئته التي ما تركته، والتي قدّمت أبناءها وأرزاقها، في ضاحية بيروت والجنوب والبقاع، غير مرغمة على تحمّل عذابات الاقتتال الداخلي والرسائل السياسية، لا بل وغير مرغمة على دفع المزيد من الدمّ فاتورة تسويات قد تأتي لاحقاً.
وفي المقابل، على مَن هم في الجانب الآخر أن يعيدوا حساباتهم أيضاً عبر إستراتيجية واضحة مقنعة مفادها أنّ الدولة ليست في وارد التخلّي عن شبر من الأرض، إستراتيجية تضمن لأهالي الجنوب أنّ بلداتهم غير مباحة وغير مهدّدة، إستراتيجية تضمن تسليح الجيش اللبنانيّ.
ولو كانت هذه أصعب المهمّات فنحن نستحقّ المحاولة.