لا يختلف اثنان على العلاقة الوثيقة والمتينة والمبنية على المصالح المشتركة التي تجمع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالرئيس الأميركي “رجل الصفقات” دونالد ترامب الذي حدّد، منذ اليوم الأول لعودته إلى البيت البيضاوي، الخطوط العريضة لسياسته مع خصومه وأعدائه على حدّ سواء، حيث خصّ بن سلمان بالمكالمة الهاتفية الأولى مع زعيم أو قائد أجنبي.
كما تحدث في أكثر من مناسبة عن إمكانية زيارة المملكة العربية السعودية على غرار ما حدث في خلال ولايته الأولى في 2017. ومن على منبر المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عُقد في دافوس في سويسرا، وخلال كلمته المباشرة مدح ترامب بن سلمان متحدثاً عن صفقات تجارية ستدفعه لزيارة المملكة كأول وجهة له بعد تنصيبه؛ علماً أن أول زيارة لرئيس أميركي منتخب تكون إلى المملكة المتحدة؛ كما وجّه في حينه رسالة إلى أعضاء منظمة “أوبك” خصوصاً السعودية لزيادة إنتاج النفط بغية خفض أسعاره في خطوة للضغط على روسيا لوقف حربها على أوكرانيا.
وما لبث أن عاد ترامب ليكرر كلامه أمام صحافيين في البيت الأبيض حينما قال إنه إذا كان عرض بن سلمان 600 مليار دولار فهو سيحاول إقناعه لرفعه إلى تريليون دولار، خصوصاً بعدما كشفت وكالة الأنباء السعودية عن المكالمة التي جرت بين الرجلين، وعن رغبة المملكة في توسيع استثماراتها وعلاقاتها مع الولايات المتحدة في السنوات الأربع المقبلة بمبلغ 600 مليار دولار مرشحة للارتفاع في حال أتيحت فرص إضافية.
يذكر أن ولاية ترامب الأولى شهدت تقارباً ملحوظاً بين واشنطن والرياض، حيث حظي باستقبال لافت في الرياض تضمّن رقصات بالسيوف وصفقات بالمليارات قبل أن تتوتر العلاقة مع إدارة خلفه الرئيس الأميركي السابق جو بايدن…
أما السؤال الذي يطرح نفسه: ما دوافع بن سلمان للاستثمار في الولايات المتحدة الآن؟ وما هو المقابل الذي تتوخاه الرياض؟
مما لا شك فيه أن فحوى الاتصال ينطوي على ثلاث دلالات رئيسية:
-الأولى، إعلان المملكة استعدادها الاستثمار بهذا السخاء يحمل دوافع تقود ترامب لزيارة السعودية كوجهة أولى خارجية له بعد تنصيبه وليس إلى إسرائيل أو أي دولة أخرى.
-الثانية، تعكس خبرة بن سلمان بالعقل “الترامبي” بمعنى أن تضخيم قيمة الاستثمارات يسيل لعاب “رجل الصفقات” الأول ترامب كما يتردّد على لسان الكثير من المراقبين.
-الثالثة، تحمل في طيّاتها إرهاصات تشي بعدول أو إلغاء فكرة انضمام السعودية إلى “بريكس +” وكذلك إلى صندوق التنمية العالمية، حيث كانت تترقّب كل من بكين ونيودلهي وموسكو وعواصم أخرى في هذه المنظمة تخصيص الرياض حفنة من المليارات لتعزيز صندوقها، ناهيك عن ثنايا الترقب السعودي لمستوى الدعم العسكري الأميركي واستمرار ترامب في توفير الحماية للأمن القومي السعودي.
بات جليّاً اليوم أن ترامب يحمل مبدأ يستند بالدرجة الأولى على الاقتصاد السياسي الذي يشكل العملة الرئيسية للتعامل مع العواصم الدولية.
في المقابل، يجب ألا يُخفى دهاء صانع القرار السعودي الذي يتجلّى بإعلان نوايا من قبل الرياض تجاه هذه الاستثمارات المليارية، خصوصاً في ظل عدم وجود خطة بعد تفنّد التواريخ والأرقام والدفعات وباقي الأمور الإجرائية التفصيلية والعوائد المرتقبة من قبل الرياض والأمثلة هنا تكاد تبدأ بالحصول على أسلحة متقدمة ومتطورة ولا تنتهي بالحصول على عضوية تضاهي عضوية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي “الناتو” ، فضلاً عن السماح ببناء مفاعلات نووية للأغراض السلمية، وصولاً إلى اعتبار الرياض مركز الشرق الأوسط الجديد.
أمام هذه المشهدية تبرز مسألتان جوهريتان:
-الأولى تقوم على رسم المملكة لسياستها تجاه الولايات المتحدة وفق تطلعات وذهنية الرئيس والإدارة التابعة له كل على حدة.
-الثانية، وفي ظل المتغيرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط برمتها على إثر انتكاسة المشروع الإيراني، بحيث باتت تعتبر السعودية القوة الأكبر في المنطقة وترمي إلى تعزيز نفوذها بشكل أوسع.
في كلتا الحالتين، باتت الرياض تنتهج البراغماتية السياسية على غرار دول كثيرة. وعليه يحاول ولي العهد السعودي ومن خلفه النخب السياسية في الرياض الاحتفاظ بنوع من المركزية الأميركية، بحيث تصبح الجسر الاستراتيجي لسياسة ترامب في المنطقة في ظل أفول كامل لنجم إيران وآخر نسبي لتركيا باستثناء دورها في سوريا.
في المحصلة، وفي إشارة موجزة إلى الاستثمارات السعودية الهائلة المرتقبة في الولايات المتحدة يبدو أنها لا تستهدف تحقيق عوائد نفعية ومادية بالدرجة الأولى، بقدر ما يحرّكها البعد السياسي من جهة والاعتبار الإستراتيجي من جهة أخرى…
-المواقف الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة “النهار” الإعلامية