ماذا لو قطعت التلفزيونات البث منتصف الليلة ليطل رئيس الحكومة معلناً تشكيلة تضم نخبة من رجال العلم والاختصاص من أصحاب السمعة الطيبة والكفاءة العالية، بينهم وزير سرياني للخارجية مثلاً ودرزي للمالية وهكذا دواليك باعتماد معيار المواطنة لا المطاوفة.
يستعصي تأليف الحكومة في لبنان، كما تستعصي الاستحقاقات الأخرى، من الأدنى مستوى إلى الأرفع. ليس انتخاب رئيس جمهورية أسهل، ولا تعيين مأمور أحراج أو مراقب جوي أو تطويع جندي في الجيش أو شرطي سير. ليس مستغرباً أن يكون البلد بلا إدارة، فهذا طبيعي، المستغرب أن يملأ الفراغ، فقد تعوّد اللبنانيون عليه وتكيفوا معه إلى درجة استغراب عكسه.
يكابد رئيس الجمهورية جوزف عون ورئيس الحكومة المكلف نواف سلام من أجل تأليف حكومة تستجيب آمال اللبنانيين وطموحاتهم بالتغيير، ولو بحد أدنى يسمح بإصلاحات سياسية واقتصادية وإدارية هي مطلب شعبي ومطلب دولي بعدما هبط البلد الى هاوية سحيقة من التردي الاقتصادي والسياسي والاداري والأخلاقي. لكن جدران الاستعصاء ما زالت تحول دون تحقيق تقدم في مواجهة تعنت كل الأفرقاء السياسيين وتشبثهم بما يعتبرونه حقوقاً لهم ولطوائفهم وأحزابهم، في سياق تناحر طائفي ومذهبي دمر البلد وسيقضي على ما تبقى من حطامه.
هل يمكن تخيل سيناريو آخر للبنان، أو يمكن أن يستفيق اللبنانيون من غفلتهم ليجدوا أنفسهم يعيشون في بلد آخر طالما حلم كثر منهم به، وهم الأكثرية الصامتة المقموعة أو المغرر بها أو المجيّشة بإسم الدين والمذهب، أو المستقطبة بفعل الضغوط والإغراءات المادية والوظيفية والتخويف من الآخر حتى التحريض على قتله إذا أمكن؟
ماذا لو قطعت التلفزيونات البث منتصف الليلة ليطل رئيس الحكومة معلناً تشكيلة تضم نخبة من رجال العلم والاختصاص من أصحاب السمعة الطيبة والكفاءة العالية، بينهم وزير سرياني للخارجية مثلاً ودرزي للمالية وهكذا دواليك باعتماد معيار المواطنة لا المطاوفة. وزراء يشار إليهم باعتبارهم لبنانيين أولاً.
في السيناريو المتخيل أيضاً، تنال الحكومة الثقة في يوم واحد بناء على بيان واضح لا يستغرق إعداده أكثر من يوم ولا يختلف الوزراء على كل كلمة وحرف فيه، ثم يبدأ الوزراء أعمالهم بدأب ونزاهة في وزاراتهم التي لا “يدحشون” فيها أقاربهم وأتباعهم كمتعاقدين ومستشارين، يثبتونهم بالتهريب لاحقاً من دون أن يملكوا الكفاءة والأحقية.
يفترض السيناريو المتخيل أيضاً أن تنشأ ورشة لإصلاح القضاء لا يتدخل فيها أي سياسي، تضع القاضي المناسب في المكان المناسب، يقودها وزير عدل عادل ومجلس قضاء جريء وقضاة أصحاب ضمير. كما يفترض قيام ورشة مماثلة في الأجهزة الأمنية يتولاها الأكفياء والأنقياء من أبنائها ويرعاها وزير داخلية منزه عن المصالح الشخصية والولاءات الطائفية.
وماذا لو سار آلاف اللبنانيين القادمين من عكار وطرابلس وكسروان والمتن والأشرفية وبعقلين وترشيش وعاليه وزحلة وسعدنايل وجب جنين وراشيا وبعلبك والقاع وعرسال وبيروت والضاحية… مع أهل الجنوب في مسيرة عودة وطنية شاملة لا تعود بعدها الموتوسيكلات الشيعية إلى المناطق المسيحية والسنية بأسوأ نموذج للإحتفال بالنصر؟
وماذا أيضاً لو يُصدر مجلس النواب قانوناً يمنع الهتافات الطائفية والمذهبية في الساحات والشوارع والملتقيات ويعاقب مرتكبيها بتهمة التحريض على السلم الأهلي والذوق العام، أسوة بالقوانين التي تمنع نشر بعض الأعمال الفنية التي يرى بعض الرقباء أنها تخدش الحياء العام وبثّها؟ فخدش الحياء العام أقل خطراً من خدش الحياة العامة.
وهل أجمل من يذهب الناس إلى أعمالهم وحاجاتهم وقد نظفت الشوارع من الصور العملاقة لزعمائهم والتي عُلقت تزلفاً وتملقاً، وبعضها باخت ألوانه أو تكسرت عواميده أو تمزق قماشه أو وقع في وسط الشارع؟
من ضروب الخيال أيضا أن يفتح اللبنانيون تلفزيوناتهم فلا يجدوا على الشاشات “قرطة” المحلّلين الطائفيين العصبيين أنفسهم، فيغيب “الكتّاب” الذين لم يكتبوا شيئاً في حياتهم، والمحلّلون الذين لم يحلّلوا إلّا فئات دمهم، والاستراتيجيون الذين لم يقرأوا إلّا كتباً فئوية أكل الدهر عليها وشرب. بل يجدون بدلاً من هؤلاء الطائفيين المحرضين رجال ثقافة وعلم وفن، وسياسيين راقين يفهمون ويجعلون غيرهم يفهم، يقربون الناس من بعضهم بعضاً ومن صورة وطن للجميع، وبرامج حضارية عصرية وموسيقى ومسرح وسينما وأدب…
لعل الأغرب من الخيال أن تعترف الطبقة الساسية، فرادى وجماعات، بأنها فشلت في قيادة البلد وبأن كل أفكارها كانت غير مناسبة فتتخلى عنها وتعلن استقالتها، تاركة الحكم للدستور والقانون وللمواطنة الحقيقية القائمة على العدالة والمساواة بعيدأ من القيد الطائفي.
تخيلات لا أكثر.