Skip to content

السفينة

alsafina.net

Primary Menu
  • الرئيسية
  • الأخبار
  • افتتاحية
  • حوارات
  • أدب وفن
  • مقالات رأي
  • منوعات
  • دراسات وبحوث
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • الأرشيف
  • Home
  • هنا وهناك في آن معاً عن محاولاتٍ للانتماء بين ألمانيا وسوريا… هبة القادري…..المصدر: الجمهورية .نت
  • مقالات رأي

هنا وهناك في آن معاً عن محاولاتٍ للانتماء بين ألمانيا وسوريا… هبة القادري…..المصدر: الجمهورية .نت

khalil المحرر فبراير 1, 2025

بدأتُ كتابة هذا النص لأول مرة قبل ثمان سنوات، بعد شهور من وصولي إلى ألمانيا. كنتُ أحاول أن ألتقط ما أشعر وأفكر فيه عن تجربتي في الهجرة. كتبَ لي محرّر الجمهورية، صادق عبد الرحمن: «يمكننا نشر النص ولكنني أعتقد أنك ستغيرين رأيك بعد تفاعل التجربة مع الزمن، فتريثي»، وهذا ما فعلت. وضعتُ النص جانباً.

كل عام، كنتُ أعود إليه مرة، أُضيف مقطعاً وأمحو آخر، وأربطه بحدث أو أفكّ ارتباطه. نُعيد جدولته للنشر، ثم نُلغيها.

هذا العام، قررنا أخيراً أن ننشره. لكن النص كان ناقصاً، يفتقرُ إلى نهاية. ثم حدث ما لم يكن في الحسبان: سقط نظام الأسد. فجأةً، النص الذي ظل معلقاً طوال هذه السنوات وجد خاتمة وانفراجاً، كما كثير من الأشياء الأخرى.

في هذا النص، سأحكي عني، عن بحثي عن ذاتي ومحاولاتي للانتماء، بين الوطن والمنفى، قبل الثورة في سوريا وبعدها، مروراً بالحرب واللجوء، وصولاً إلى محاولات الاندماج في ألمانيا. سأكتب كما لو أنني أجمع شظايا نفسي وألحمها، لأصنع معنىً وأفهم أكثر.

كل ما عِشته في طفولتي تَجذَّرَ في عقلي والتحمَ به بعمق. أتذكر صباحاتي التي تَشاركتُها مع والدي. فأنا، على خلاف أمي وأخي الأكبر، كنتُ أستيقظ باكراً، ربما لأستأثر بلحظات صافية مع والدي. أتذكر بردَ الصباحات الذي سرعان ما ينقلب دفئاً حين يرمي والدي قشة الكبريت في «الصوبيا». كنتُ أتأمل لهب النار وخيط المازوت الرفيع الذي يتحكم به، والدفء يتسلل إلى بطني بدءاً من أطراف أصابع قدمي بينما ألصقهما بقاعدة الصوبيا وأنا أنتظر والدي حاملاً إبريق البابونج. كانت الصباحات تشبه بعضها، إلا صباحاً واحداً عالقاً في ذاكرتي. أفتح حقيبتي المدرسية بعد يومي الأول في الصف الأول، أخرجُ دفترَ الطلائع المطبوع عليه صورة حافظ الأسد. يلقي والدي نظرة على الدفتر ويرى الرموش الكثيفة التي رسمتُها لحافظ، يتغصُّن جبينه ويشيحُ بنظره: «رجّعيه متل ما كان»، يقول لي بنبرة لا تَتركُ مجالاً للاعتراض. أحاول أن أمحو الرسم ولكن الألوان تعاند. يأخذ والدي الدفتر ويقول لي أن أقول للآنسة إنني ضيعته. أحاول النقاش والاعتراض، ولكنّه يصبح على غير عادته مُقتضَباً وحادّاً. ظننتُ يومها أنه يكنّ محبّة لحافظ الأسد، فتقصدتُ لاحقاً أن أمتدحه أمامه، فكانت تغضّنات جبينه أشد كثافة. تعذَّرَ عليَّ فهمُ أبي وأصبحَ الأمر أحجيةَ طفولتي، ولُغزَها. وهذا لم يكن تفصيلاً استثنائياً، فصورة الأسد في كل مكان في البلد، واسمه، ملتصق بمراكزها الثقافية ومكتباتها ومعاهد تحفيظ القرآن وشوارعها. لا أعلم إن كان هذا سبباً وراء شعوري العميق بعدم الانتماء لسوريا.

أما بالنسبة لفلسطين فكنت متأكدة من شعور والدي تجاهها ومن انتمائي لقضيتها. عام 2008 قمتُ بحملة لجمع النقود من أجل غزة في مدرستي. عندما علمت مديرة مدرستي بذلك الشأن، عاقبتني وأخذت المبلغ كاملاً وطلبت استدعاء ولي أمري. أصبح والدي يومها مضطراً لمواجهتي بالحقيقة التي أجبرني أن أَعِدَهُ أنها ستبقى سرّاً بيني وبينه: نظام الأسد ليس داعماً لفلسطين كما يدّعي، وقد يسجنني إذا جمعتُ تبرعات دون ترخيص. تجرعتُ الحقيقة التي اختصّني والدي بها في عمر الثالثة عشر. وكَتمتُها. وانحلَّ جزء من أحجية الطفولة، وحَلَّتْ محل الفضول مرارة مريعة. في السنوات التي تلت ذلك كنا نعرف بشكل جماعي أن نظام الأسد يقف في طريقنا وفي وجه أحلامنا، لكن لم يكن بوسعنا أن نقف في طريقه. حتى قرارات شخصية على غرار: ماذا سندرس؟ وماذا سنكون؟ كانت مغلقةَ الأفق ولا تُرضي أحلامنا. موت أحلامنا لحظة ولادتها كان أمراً يومياً مُعاشاً. حتى العام 2011 حين انطلقت شرارات الثورة السورية. اعتُقِلَ المدوِّن السوريُّ أحمد حذيفة، وسمعتُ يومها للمرة الأولى بالاعتقال السياسي، ثم تفتّحَ وعيي بعدها بالتدريج على الجحيم: معتقلات تدمر، سجون صيدنايا، تسليم الجولان، الظلم والتغييب والتعذيب. مع انطلاق المظاهرات في سوريا وأول هتافات الحرية أحسست بانتماء رهيب للبلد. وكأن لي جذوراً شقّت وجودي فجأة وامتدت لتنغرس عميقاً في الأرض. بعد سنوات من الشعور غير المفهوم بالغربة وانعدام الأفق، جربت أن أذوب في حبّ البلد وقطعت على نفسي وعداً أنني لن أتركها وأنني وصديقاتي «سوف نبقى هنا»، مهما جرى.

مثل كثيرين، كنتُ أعتقد أن الثورة لن تستغرق أكثر من شهور، أو على الأكثر سنة. أو ربما سنتين. مع الوقت بدأت قوانا تخور واصطدمَ شعار البقاء الذي رفعناه عالياً بصخور الواقع ليتكسّرَ عليها ويكسرنا. سمعنا أصوات جنازير الدبابات ومُحركاتها في حاراتنا، أحرقَ الأسد بيوتنا، اعتقلَ مئات الآلاف منا، قتل أصدقاءنا وغيّبهم، داس على أحلامنا وحناجرنا. عام 2013 نكثتْ أولى صديقاتي العهد وهاجرت إلى مصر. السنوات التالية تلتها سلسلة من الخيانات الحتمية. كل واحدة منا نكثت العهد في زمن مختلف، إلى وجهات مختلفة. عام 2016 غادرت أنا .. إلى الشمال الألماني البارد.

ولدتُ وكبرت في القلمون في سوريا في منطقة اعتاد معظم رجالها السفر؛ في معظم الأحوال إلى الخليج، للبحث عن فرص العمل وجمع المال. جدتي هي الفتاة الوحيدة في عائلتها التي لم يكن زوجها مغترباً، ووالدتي هي البنت الوحيدة في عائلتها التي تزوجت من رجل لا يسافر. أخبرني جدّي أن أمي أخبرته عندما كانت في الثامنة أنها لا تعرف الكثير عن زوجها المستقبلي، لكنها تعرف على وجه الدقة أنه لا يسافر ولا يُدخّن. وهكذا كان.

على عكس والدتي، لم أنتمِ قبل 2011 لبلدي أو محيطي، لا لمدينتي ولا لشارع بيتي، لكني كنت أنتمي إلى غرفتي الصغيرة. صحيحٌ أنها لاتدرأ البرد ولا تحمي من الحر، إلا أن لها باباً يمكنني أن أُغلقه على نفسي.

أحفظ تفاصيل بيتنا جيداً، والتي كانت تتغير كل سنة قليلاً مع زيادة مَعاش والدي. وعندما تغيبُ عني بعض التفاصيل، تُذكّرني بها الصور التي تحتفظ بها أمي. لا أعرف الكثير عن طفولتي المبكرة لكنني أعرف أنني قضيتُ سنوات أُطالب والدَيّ بغرفة لي. غرفة تخصّ المرء وحده كما تقول فرجيينيا وولف. بعد أن أدركوا أنني عنيدة وأن حالتنا المادية لا تسمح لنا بالانتقال إلى بيت أكبر، قرَّرَ والدي تحويل بلكونة المنزل عن طريق ألواح زجاجية إلى «شبه غرفة» لابنته الكبرى، لكي يُريح رأسه.

كانت غرفتي ملحقة بغرفة المكتبة التي يستضيف والدي فيها ضيوفه، ما يعني أنه كان علي أن أتركها سرعان ما يحضرون. لكن لم يكن الأمر مشكلة، لأني كثيراً ما أحببت أن أجلس مع ضيوف والدي الذين كنتُ أُفضّلهم عن ضيوف أمي. لكن حينما بدأت أصبح «صبيّة» أصبح دخولي غير مُرحَّب به. أتذكر لحظة الفراق الأليم حينما حضرت أكواب الشاي وجهزتُ نفسي لأشارك في المجلس، لكن والدي أخذ الشاي وأخذني من يدي ليقودني بلطف إلى خارج الغرفة ويهمس لي: بابا الأحسن تضلي مع أمك. هنا انتهت مرحلة من عمري، وبدأت معركة أمي لتطويعي مع عوالم النساء وتجهيزي لها.

عام 2011 توطّدت علاقتي مع الغرفة، إذ أنها كانت مكاناً استراتيجياً للوصول الأسرع إلى الانترنت الخليوي «السيرف»، بوابتي السريّة إلى العالم. كنتُ أُحضِّرُ للبكالوريا في هذا العام، وأُتابع الثورة السورية، وأُقسم في كل مرة يسألني والدي إن كنت كتبت شيئاً على فيسبوك أنني لم أفعل، وفي سري أحمد الله أنه لم يسمع بتويتر أو بالوورد بريس. انتميتُ لهذه الغرفة رغم شحّ الوقود وازدياد البرد وتموضع القناصين في محيطها. وقعَ زجاج الغرفة أثناء الانفجارات، ووجدنا فيها غيرَ مرةٍ شظايا من القصف، لكنها كانت تُعطيني شعوراً عالياً بالأمان والدفء رغم أنها كانت تقنياً أكثر الأمكنة خطراً وبَرداً.

اعتدتُ الوحدة والغربة بعد رحيل صديقاتي، انتهت الثورة في مدينتي وفي دمشق، شيَّعتُ الثورة في قلبي وشعرتُ أن روحي شابت، وأن ما آمنتُ به وصَنعني تحوَّلَ إلى مقبرة من الجماجم. كنتُ أسمع الناس البسطاء المتعبين وهم يدعون «الله يطفيها بنورو» ويدعون على من كان السبب بالخراب، بينما ينتظرون في طوابير الخبز ويركضون خلف عبوات الغاز. عشتُ أعواماً من الخريف النفسي الصقيعي. لم أكن قادرة نفسياً على التعامل مع المشهد نفسه كل يوم: شباب في عمري أو أكبر، يتم توقيفهم على الحواجز وسحبهم. لا نعرف إلى أين؛ الجيش أم المعتقل. أصبحت الحياة ضاغطة بشدة، ولعجزي عن التلاؤم معها صرتُ أتوق للموت، لموت فيزيائي يشبه ذلك النفسي الذي أعيشه، ورغم وفرة الموت حولي لم يكن يجد سبيله إلَيّ. حاولت أن أذهب إليه، وكنت أَجبن.

قررت اللحاق بصديقاتي وبحثتُ عن سُبُل للسفر. فكَّرت طويلاً وملياً. صرت متأكدة أن وجودي خارج أسوار البلد أنفع لي وللبلد على حد سواء. في لا وعيي العميق ترتبط تجربة الهجرة بالموت النفسي الذي عشته أو الولادة الجديدة التي كنتُ أنشدها. أخذت وقتي تماماً في عملية الرحيل، الذي كان بالنسبة لي: قتلُ نسخةٍ من الذات. وبينما أَنتظِرُ الفيزا من السفارة الألمانية، كانت أمامي شهورٌ أَحزِمُ فيها متاعي وكان لدي الوقت في تقطيع وتقليم ارتباطاتي العاطفية واحدة تلو الأخرى. وهذا ما فعلت، لأني كنت أعرف أن الرحيل يعني اللاعودة، ولسبب ما كنت مقتنعة أن امتلائي بوطني الجديد يعني أن أفرغ نفسي من وطني الأول، وكانت لدي حاجة ماسّة أن أبدأ صفحة جديدة: على بياض.

في نهايات صيف 2016 وصلني اتصال من رقم مجهول يُبارك لي باللهجة اللبنانية حصولي على الفيزا إلى ألمانيا. كنتُ وقتها مع أمي في زيارة نسائية. اعتراني شعور بسعادة وخِفة كبيرة خَفّفت عني ثقل الزيارة، التي كان أجمل ما فيها أنها انتهت.

رغم أني كنت في أشد الاقتناع بأن الرحيل هو كل ما أريد، كانت الليالي الأخيرة في سوريا مليئة بالشكوك التي تنخزُ كأشواك صغيرة تلافيفَ دماغي، فتُبقيني متيقظة. هل فعلتُ كل ما بوسعي قبل أن أخرج؟ هل «قرعتُ جدران الخزان» كفاية؟ هل فعلتُ يا غسان كنفاني؟ هل فعلنا؟

أثناء طريقي إلى بيروت في السيارة التي ستوصلني إلى مطارها، كنتُ أُلقي على كل شيء نظرة الوداع الأخيرة. على الأطفال الصغار الذين يتسولون الخبز و«الفراطة»، على الشبيحة وعضلاتهم المنفوخة حتى تكاد تتمزق، وعلى طوابير السيارات التي تنتظر على دور الوقود. تذكرتُ مقولة ميلان كونديرا «إن غيوم المغيب البرتقالية تعكسُ على كل شيء ألق الحنين، حتّى على المقصلة». ثم تذكرتُ أني لا يمكن أن أعتبر نفسي ناجية حتى أعبر حاجز الفرقة الرابعة. هنا عاد القلق الاعتيادي ليأخذ مكانَ الحنين السابق لأوانه. ثم تعطلت مشاعري، حتى عبرتُ الحدود اللبنانيّة. في كل لحظة قبلها كان الرعبُ يأكلني من عبارة: اتفضلي معنا، ومن أن يكون الأمن السوري قد اكتشف عملي الصحفي في دمشق ونشاطاتي الثورية، التي أنا نفسي، لا أتذّكرها.

لم أستطع تَنفُّسَ الصعداء حتى ركبتُ الطّائرة. عندما أقلعتْ وبدأتْ بالارتفاع بدأ عقلي يتفتَّحُ على فكرة أن هذه الحقبة الزمنية من تاريخ أيامي قد انتهت. بكل ما فيها. أدركتُ أن علي اليوم أن أنتقل بذاتي إلى باب جديد من كتاب أيّامي: باب الغربة. جهزتُ نفسي للمرحلة القادمة وللخفَّة التي اعتقدتُ أنها تنتظرني في الشمال الألماني، حيث سأبدأ من جديد.

نزولي من الطائرة كان كالوقوف على عتبة حياة جديدة ومُتخفّفة: من الماضي، من الألم، من الخسارة، من الذكريات، من الارتباطات المؤلمة. حقائبي معي وعضلاتي تحت جلدي مِطواعة وقلبي مرن ومفتوح على مصراعيه. أريد أن آخُذَ حقي في الشباب والتفتح من قلب الحياة، أريد أن أزورَ مدناً وأن أفتحَ أحاديثَ بلا خوف وأن آخذ كثيراً وأعطي بسخاء.

عندما اعتزمتُ السفر إلى ألمانيا وبدأت تَعلُّمَ اللغة الألمانية، صرتُ أنتبه أن كثيراً من الكتاب الذين أقرأ لهم والذين صاغوا فكري كانوا ألماناً أو كتبوا بالألمانيّة: إيمانويل كانت، شتيفان تسفايج، فيكتور فرانكل، إيريك فروم، حنة آرنت، نيتشه، وشاعري المفضل: ريلكه. ما جعلني أشعر بقرابة فكرية مع الألمان، وما وَلَّدَ لدي توقاً لمعرفة وقراءة المزيد.

رغم كل ذلك، كان الفراغ عنوان البدايات في الشمال الألماني. حاولت أن أملأ ساعاتي وأيامي وأسابيعي بكل هو ألماني، بدأتُ أُكوِّنُ علاقات مع المكان وأُصغي إلى نصائح السابقين والألمان. الجميع أكَّدوا لي أن اللغة هي المفتاح. بدأت حياتي تدور حول اللغة الألمانية التي أحببتها فعلاً. صرتُ أعيد قراءة الكتب التي قرأتها بالألمانية وكأني أحاول إعادة بناء معرفتي بلغة المكان الجديد. أبحث عن كتب جديدة، أقرأ كل ما تصله يدي، من كتب الفلسفة الألمانية إلى مكونات علبة الشامبو. صرتُ أحاول أن أخلط نفسي بالناس بكل الفضول، وربما، بالحاجة المحزنة لأن أجد رفقة في المكان. عرفتُ أن جميع اللاجئين تُحاصرهم عقدة الناجي فاستطعتُ التحايل عليها وإبعادها من طريقي. صرتُ أُعرِّفُ عن نفسي، حتى أمام نفسي، بأني كائن كوني «كوزموبوليت»، ولا مُنتمٍ لشيء لكنه وفي الوقت نفسه مُنتمٍ لكل شيء. أصلاً أصلاً انتمائي إلى سوريا لم يكن إلا محضَ صدفة جغرافية. أما قراري بالهجرة فهو على الأقل قرارٌ واع. هكذا حاولتُ أن أُقنع نفسي.

«من أين أنت؟»
اصطدمَتْ رغبتي بأن أكون كائناً لا مُنتمياً بهوَس الألمان بمعرفة أصول الناس الذين لا يحملون شَعراً أشقر وعيوناً زرقاء، وخصوصاً أولئك الذين يُخطئون في تصريف الأفعال والصفات. صرتُ أتحايل على هذا الهوَس وأجيبُ بكلمات منمقة لا تحمل إجابات مريحة، إلى أن أدركتُ أن ذلك يجعل المقابلين لي أكثر فضولاً وانزعاجاً وإزعاجاً.

في البداية ظننتُ أنني لم أكن مرتاحة مع سؤال «من أين أنت؟» بسبب رغبتي في أن أكون منتمية لكل الأمكنة ولا منتمية لأي مكان في الوقت نفسه، أو لأني لستُ جاهزة بعد للتعامل مع ندوب الماضي وانكساراته. أردتُ أن أطوي الصفحة. كما أن السؤال بدا مزعجاً أيضاً لأنه يصرّ على أن يُعرّفني ويحشرني في قالب يُعفي الألمان من قراءتي وفهمي. بعد فترة من وجودي في ألمانيا، عرفتُ أن هذا السؤال مزعج للجميع، حتى الجيل الثالث من الأتراك في ألمانيا، وحتى للألمان الذين وُلدوا لأحد الأبوين من أصول غير ألمانية نقية. فهمتُ بعدها أن السؤال في جوهره ليس مَعنياً بفهم أصول الناس، وإنما بالتأكد أنهم ليسوا ألماناً. من ناحية أخرى كان علَيَّ أن أقول إنني لاجئة، وفي ألمانيا تم تقزيمُ اللاجئين إلى باحثين عن الأمان والخبز ومثيرين للشفقة. لم يكن قلبي المفتوح على مصراعيه مرتاحاً لأكونَ ويكونَ محطَّ نظرات الإشفاق. بعد القليل من القراءة عرفتُ أنه حتّى اللاجئون الألمان في أميركا كانوا ينزعجون من إطلاق تسمية اللاجئين عليهم، إلى درجة أن حنّة آرنت ابتدأت مقالتها «نحن اللاجئون» بأنها: لا هي ولا اللاجئون الآخرون يحبون أن تُطلَق عليهم هذه التسمية، وأنهم لا ينفكّون يفعلون كل ما بوسعهم ليتخلصوا منها.

بدأتُ حياتي الجديدة. تعلّمتُ اللغة، قرأتُ القوانين، صرتُ أتتبع الطقس، أَصِلُ إلى المواعيد قبل أوانها، أُرتب أوراقي وأضبطُ نفسي على إيقاع المكان الجديد. لم تكن شهوري الأولى من الإقامة في ألمانيا يسيرة، الليالي المُعتمة الطويلة الباردة كانت تأكلُ روحي. والوحدة وجمود الحياة كانت تتسلل إلى نَقيّ عظامي. لكن يعزّيني أني أعرفُ هدفي؛ أريدُ أن أدرس وأن أكون فعّالة ومُنجِزة. حاولتُ أن أتَّبِعَ كل النصائح الجيدة. التفاؤل والكثير منه، كان عنوانَ فترة اللجوء. لكي يعيد المرء بناء حياته يجب أن يكون متفائلاً وقوياً.

بعد كل ما عَبرْتُ به وعَبَرَ بي، أردتُ أن أخطو بأسرع ما يمكن وبأخفِّ ما يكون. كرصاصة. نحو الهدف. لا تلتفّ.

ألمانيا هي وطني الذي قررتُ أن أختاره وأمدُّ جذوري فيه. خياري. لكن لسبب ما، كنتُ كُلّما كثَّفتُ محاولاتي لمدِّ جذوري والاندماج في المكان والانتماء له، كلما تقلّصتْ تلك الجذور وارتدّت إليَّ بنفس القوّة وازدادت حالةُ الهروب لديّ. بعد فترة انتبهتُ أني أعيش حياتي في ألمانيا وكأني أحملُ جذوري وأرفعها كفستان لا ينبغي أن يلامس الأرض، وأركضُ إلى الأمام.

كورسات الاندماج
كانت مرحلة دورات الاندماج من أبرز المراحل التي علقت في ذاكرتي، وكانت مُؤسِّسة لصوغ علاقتي مع نفسي ومع ألمانيا. أعتقدُ اليوم أنني لم أكن مُحصَّنة نفسياً كفاية للتعامل معها. رغبتي الملحّة باستبدال وطني جعلتني أفتح قلبي على مصراعيه، وكنتُ أشعر بامتنان كبير للبلد الذي أعطاني فرصة. مما جعلني أكثر هشاشة. دورات الاندماج كانت تحمل أشكالاً من الفوقية الألمانية. وفي تلك المرحلة، لم أَكُن واعية تماماً بسطوة اللغة وأثرها عليّ. فكل ما كنت أسمعه بالألمانية، التي كانت مُفرادتي اللغوية وقواعدي فيها لا تزيد عن مستوى طفل في الخامسة من العمر. حينما أنظر إلى الوراء، أَعتقدُ أن تأثيرات هذه المرحلة تشبه تأثيرات التربية في الطفولة وسنوات النضج الأولى.

أثناء النقاشات في الدروس كانت تحدث الكثير من الصِّدامات بين الثقافات. هذه الدورات كانت أول احتكاك لي مع أهل بلدي من جديد. كان لدي شيء من النوستالجيا سرعان ما تلاشى حين أصبحت النقاشات مساحات لقتال شوارعَ لفظي، تنهال فيها كثير من الآراء الرجعية الداعمة للديكتاتوريات والمُعادية للمرأة والحريّات. كان يهيمن عليّ الخزي والمرارة، خصوصاً عندما أضطر أن أُترجِمَ ما قيل. عمّقتْ تلك المرحلة شعوري بالخجل أمام الألمان «المتفوقين أخلاقيّاً» والأقدر لغويّاً، وفوق كل ذلك: يستضيفوننا. كل هذا سيتغير بعد ذلك، وسأعمل عليه بشكل حثيث، نفسياً ومَعرفيّاً. لكن في تلك المساحة آنذاك كان الشرخ المفروضُ عليّ بين مكاني الأصلي ومنفاي يزيد، على نحو يبدو أنه لا يمكن التئامه. وكانت تزداد معه الحاجة للابتعاد، التي تدفعني لأركض في الاتجاه المعاكس بأسرع ما يمكنني. تلك الحاجة كانت تحمل في ثناياها رغبةً ملحَّةً بالانغراس في المجتمع الألماني .. كملجأ.

شيءٌ من الانكسار والخزي صار يصطبغ بحنجرتي وأنا أُترجم، والأسئلة تزداد إلحاحاً: من أين كل هذه الرجعية؟ هل نحن شعوب متخلفة؟ أم أن عشرات السنوات من الديكتاتورية كفيلة أن تخلق هذا؟ بدأتْ تتوازن الكفة عندما تعملّتُ الألمانية كفايةً، وانحسرت حالة الانبهار بكل ما هو ألماني. . توازنتُ أكثر بعد صعود اليمين المتطرف. صرتُ أسمع آراء الألمان المتعلمين والمتحضِّرين الداعمة لليمين المتطرف والمؤمنة بالمؤامرات والرجعية والكارهة للنساء، وبالألمانيّة التي كانت مرتبطة لدي بشكل طفولي محرج: بكل ما هو حضاري. مصائبُ قوم عند قوم فوائد. إن كانت هذه الآراء موجودة بعد سنوات من العمل الممنهج المؤسساتي على التعليم السياسي والديمقراطية، فلا عتبَ علينا نحن السوريون، قلتُ لنفسي وقتها.

أخ، ها أنا أقول «نحن» و«هُم» وأنظر إلى نفسي كسوريّة. ها أنا أحشرُ نفسي في القالب الذي أتفاداه. مسألة عدم الانتماء هذه ليست يسيرة كما كنتُ أحسب. يقول ميلان كونديرا في رواية الجهل إن فكرة الوطنية فكرة مرتبطة بمحدوديّة الزمن المتاح لنا على الأرض، فلو كان مُقدّراً لنا أن نعيش ضعف عمرنا مثلاً، لتلاشت رومانسية فكرة الانتماء لوطن واحد، لأن الشباب سيتّسع لوطنين. كنتُ معجبة بكلام ميلان كونديرا نظريّاً، ولكن محاولاتي العملية لعقلنة الانتماء والحنين، وجعلِ هويتي سائلة، كانت تفشل؛ مراراً. هويّتي السوريّة تُباغتني حين تصطدم بشيء، وتتصلَّبْ.

في الجامعة
أوضحَتْ لي النصائحُ التي أخذتُها، وجسُّ النبض الذي أجريته، أن الألمان غير معنيين ببلادنا. إنهم مشغولون كفاية بحياتهم اليومية، وبأوروبا التي يطوفون حولها ككعبة ويعتقدون أنها مركز العالم. يكفيهم احتواؤنا والمشاكل التي نتسبّب لهم بها على أرضهم. خصوصاً أن منطقتنا معقَّدة تعقيداً يصعب اختصاره وتلخيصه، هذا إن لم يتعذَّر فهمه أصلاً. ألا يكفيهم تكبُّدُ عناء لفظ أسمائنا المعقدَّة ومحاولة محاكاة مخارج حروفنا. عرفنا جميعاً وقيلَ لنا بوضوح أنه لا أحد يرغب في الاستماع لما كنا عليه قبل وصولنا إلى ألمانيا.

قررتُ بشكل واضح أن أُخفي هويتي، خصوصاً أن ألمانيتي باتت أفضل وبوسعها مساعدتي في الالتفاف على سؤال الـ«من أين أنت؟».

بعد مدّة من محاولاتي في التخفِّي، سألتني بروفيسورة مادة الصحافة عن جنسيَّتي الأصلية. أخبرتها أني من سوريا. شعرَتْ هي بالأسى تجاهي، وشعرتُ أنا بالأسى على أساها وضربني اليأس العميق من جدوى محاولات الهرب. كنا نناقش في إحدى المحاضرات مبادئ نقل الخبر الصحفي. وكان المثال هو الكيماوي في سوريا. لم تكن دكتورتنا مقتنعة بما يتداوله الإعلام من استعمال الأسد للسلاح الكيماوي، لأن ضرْبَ الأسد لمعارضيه بالسلاح المحرَّم دولياً «غير عقلاني». كان الجميع يستمع والبروفيسورة تجول بنظرها بحثاً عن وقع كلماتها، إلى أن تقع عيناها عليّ. توجّهت لي بالسؤال: ما هو سبب الصراع بين أمريكا وروسيا على الأرض السورية؟

اتجهت إلي العيون، تلعثمتُ في اللغة، ضاعت مني تراكيب الجمل ولم أعد أعرف هل أولويتي هي أن أنتقد سؤالها؟ أم أن أتعامل مع كشف هويتي التي أحاول إخفاءها ببلاهة؟ أم أن أجد جواباً؟ أحسستُ باضطراب مربك وأحسستُ أن عقلي صمتَ وتخلى عنّي؛ أريد أن أتكلم لكن الكلمات تبقى ملتصقة على شفتي أو عالقة في حلقي.

ضربني يأسٌ عميق. هربتُ إلى أكثر إجابة ساذجة في العالم: السلطة؛ الصراع على السلطة. تبَّاً. تعدى الأمرُ اليأسَ إلى احتقارِ الذات. بدأ عقلي يغلي، وغضبت، وبدأتْ فكرة الهوية السائلة تسخر مني.

سابقاً، كنتُ أتمنى أن أنال فرصة لأتكلم عن ما يحدث في بلدي، كنتُ أتمنى أن يسمعني العالم، وفي قرارة نفسي أعلم أن دخولي مهنة الصحافة ما هو إلّا نتيجة حاجتي الماسَّة للصراخ بأعلى صوتي. حاجتي المتفائلة لإسماع العالم كله وجعله يُبصر ويسمع ويشعر. لكن هذه الحاجة خبت اليوم وتحولت إلى تشاؤم أخرس، أقصى ما يريده هو أن ينجو بنفسه وأقصى أمنياته هي أن يُشيح العالم نظره عنه، وأن يوفِّر عليه نظرياته وأحكامه. عدتُ إلى المنزل وأنا مثقلة، وقرأت كل ما وصلتْ إليه يدي عن الثورات والحروب ونضالات الحرية وعن التعذيب والتغييب، وكأني أجمع ذخيرة لغويّةً لمعارك فكريّةٍ تبدَّى لي أنه لا مناص من خوضها. تعرفتُ على منظمات مَعنية بالحديث عن الثورة السورية في ألمانيا، وبدأتُ أُعيد التعرُّفَ على جذوري وتعريف نفسي بلغة جديدة. وفي ذلك أدركت كم كان بحثي عن الخفَّةِ ثقيلاً.

الغرق برأس مرفوع
على خلاف كثير من السوريين والسوريات، كان خياري في السفر خياراً واعياً اتخذته وقمت باجراءاته، ما جعلني أُوهِمُ نفسي أني حرَّةُ الإرادة. رفعتُ تحدياً منذ البداية أمام نفسي وأصدقائي، أنَّي سأجد لي مكاناً في ألمانيا ولو اضطررتُ لحفره بأظافري، وعوّلتُ على قدرتي على إعادة بناء ذاتي وعلى يأسي من إمكانية عودتي لوطني. قابلَ أصدقائي الواقعيون تفاؤلي المفرط بابتسامة صبورةٍ كإعلان هدنة مع الزمن، الذي يثقون أنه وحده كفيل بتغيير نظرتي بكل تأكيد. كما فعل معهم.

أثناء رياضة ركوب الماء في بحيرة قريبة من مدينتي تركَ أحد اللاعبين اليد الخشبية التي يتمسك بها، والتي تتحرك عن طريق حبل متّصلٍ بمحرِّكٍ كهربائيّ ضخم ممتد على مساحة من البحيرة. كنتُ خلفه تماماً، فهوَت قطعة الخشب بكل سرعتها على وجهي. آلمني فكِّي وشعرت بالخدر وفقدت السيطرة على جسدي وبدأ الماء يسحبني. صرخَ لي المسؤول من بعيد، هل أنت بخير؟ كان جوابي الأوتوماتيكي: نعم نعم أنا بخير. لا تقلق.

خرجَ الجواب كمُنعَكس من لاوَعيي، وأنا أجاهد أن أُبقي رأسي مرفوعاً فوق الماء لِئلّا يلحظ الآخرون اضطرابي ولِئلّا يرونني أغرق. وكأني لا أريد أن أكون عِبئاً على أحد. صرخَتْ فيَّ صديقتي الألمانية قائلة، «اطلبي النجدة! هل فقدتِ عقلك!»؛ أنقذني المسؤولون. أخبرتني صديقتي الغاضبة مني أن علَيَّ أن أكتبَ تقريراً بما حدث، وإلا فإني أُسقِطُ حقي في حال حدثت مضاعفات لي. على طريق العودة سألتني صديقتي عن سبب هذه الـ«لا» الصارخة، والواثقة من نفسها، التي رَفعتُها. لم أعرف الجواب مباشرة، لكني عندما فكرت عرفتُ أن سببها هو محاولاتي للاندماج في المجتمع، وشعوري بأنّي الضيف الذي يجب أن يخجل عندما يطلب، وأن يرفع قدميه لكي لا يوسخ السجادة، وأن يُبقي رأسه مرفوعاً حتى وهو يغرق. وسألتُ نفسي أي اندماج هو ذا!

ماذا يعني أن نندمج؟
عميقاً داخلي أردتُ أن أكون حرّةً تماماً. أردت أن أبني ذاتاً خفيفة ومُتحرِّرة من ثقل الماضي والهوية وضيق القضايا. أردتُ أن أُجرب أن أكون كالآخرين العاديين. ولم أكن أعي ثقلَ هذه الخِفّة، حتى شاركتُ ورشة صحفية لليافعين عام 2021. كان علينا أن نقترح موضوعاً ذا ارتباط سياسيّ. اقترحتُ أن أكتب عن «النشاط السياسي للسوريين والسوريات في ألمانيا». تحدثتُ مع زملائي وزميلاتي المشاركين لبلورة قصتي، وبدا واضحاً لي عدم اكتراثهم. حاولت جسَّ النّبض وكانت معظم الردود من نوع: الأفضل أن ينشطوا في مواضيع تخصُّ مجتمعهم الجديد وليس بلدهم. يجب أن يندمجوا هنا. شعرتُ يومها بالوحدة والغضب والألم، وما كنتُ قد تصالحت معه من عدم اهتمامهم بقضايانا اتّضحَ أنه تصالحٌ هشٌّ.

عدتُ إلى مكان إقامتي وأنا أنظر إلى اندماجي المعتوه، الذي سرعان ما يتقلّصُّ ليحلَّ محلَّه شعورٌ مريعٌ بالاغتراب. بعد ذلك قرّرتُ أن أواصل العمل على مقترحي متجاهلة آراء من سألت. أثناء مقابلاتي التقيت توماس كروغر مدير مركز التعليم السياسي في ألمانيا (bpb)، وقال لي عبارة استمرَّ أَثرُها كصدىً في وعيي لفترة طويلة: «النشطاء والناشطات السوريون في ألمانيا ليسوا فقط زملاء في النضال من أجل الحريَّة والديمقراطية، وإنما علينا أن نُرافقهم ونتعلَّمَ منهم». لم تقوّي العبارة مقالي الصحفي فقط، بل كان لها أثرٌ نفسيٌّ علاجيٌّ عميق. شعرتُ في تلك اللحظة أن جذوري التي قطعتها نبتت كبراعم جديدة من جسدي.

بعدها صرتُ أفكر بشكل نقديّ في سياسات الاندماج، التي كنت قد أخطأت وأخذتها على محمل الجد زيادةً على اللزوم، وحاولتُ بكل حاجتي اليائسة للانتماء أن أُنجِحَها، ولم أنجح. ماذا يعني الاندماج أصلاً، أو الانتماء؟ وماذا يعني أن تكون ألمانياً؟ ما زالت هذه الأسئلة دون إجابات. لا يوجد أركانٌ لاعتناق الهوية الألمانية ولا فروض يجب فعلها لنيلها.

كثّفتُ بحثي بعدها وعثرت على أبحاث الكاتبة الأميركية برينيه براون Brené Brown، التي قضت معظم حياتها العملية تدرس الشجاعة والخزي والانتماء. تقول برينيه أن أكثر أمر فاجأها من سنوات دراستها عن الانتماء هو اكتشافها أن التكيُّفَ والاندماج ليسا بلا جدوى فحسب، وإنما يقفان عقبة أمام الانتماء. لأن التكيف يتطلب منا أن نتغيّر، أما الانتماء فلا يتطلب منا تغيير ما نحن عليه؛ بل أن نكون ذواتنا. منذ يومها بدأتُ أُعيدُ اكتشاف نفسي، وأقترب كل يوم منها أكثر. لم أَعُد أتهرَّبُ من التعريف عن نفسي كسوريّة، يل صرتُ أسارع إلى ذلك، حتى دون أن يسألني أحد. بالتدريج بدأت هويتي تستيقظ وغضبي يتصاعد وتصالُحي مع العالم يزداد في آن معاً. كل خطواتي السابقة على طريق الاندماج لم تكن على الطريق الصحيح، والأسوأ: لقد كانت في الاتجاه المعاكس.

لا أعتبرُ أني وجدت إجابات قاطعة عن سؤال الانتماء. لقد كنت، وما زلت، باحثة عن الأجوبة. ولكنني توقفتُ عن توجيه الأسئلة إلى الخارج، وبدأت أصغي إلى التعاليم التي يهمس بها دمي. بدأتُ أفهم ذاتي وماضيّ، ولاحظتُ، عبر كل خطوة أخطوها إلى ذاتي وسوريّتي، أن انتمائي للمجتمع الألماني يصبح أكثر سلاسة.

عندما وصلتُ إلى ألمانيا عام 2016، كانت تنعم البلد برخاء أصدقائي نسبي وبالديمقراطية والحريات الصحفية. وكنت قادمة من بلد مُمزَّق بالحرب معدوم الأمل. في 2025، نشهد تراجع البلد اقتصادياً وصعود اليمين المتطرف وتراجع الحريات الصحفية وحرية التعبير، خصوصاً بعد السابع من أكتوبر. تتغير الموازين أمامي. أسطورة التفوق والتقدم الأوروبي انهارت لدي كما لدى معظم أصدقائي السوريين والعرب. ليس هناك شعوب مُتخلفة وأخرى متقدمة، وإنما شعوب تستمر في نضالاتها من أجل الحرية، التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد. كلّنا على سفينة واحدة؛ سفينة نضالات البشر من أجل القيم الكونية: الحرية والكرامة والعدالة. وخلال ذلك لم تتلاشَ سوريا من ذهني، وإنما أصبح العالم كله في وعيي وكأنه سوريا كبيرة، تحاربُ أسوداً متنوعين. تكتب لي زميلتي الصحفية اليوم: أنا خائفة من الانتخابات وبدأت أستيقظُ على الكوابيس. أنا أيضاً أشعر بالقلق على الديمقراطية وأرى تراجع حرية الصحافة، وعَلَيَّ أن أحدد لمن سأعطي صوتي في الانتخابات الألمانية القادمة. أنا سوريّة وألمانيّة، هنا وهناك. أعمل في الصحافة باللغتين العربية والألمانية، تعنيني قضايا البلدين ولدي أهل وأصدقاء فيهما، وجذور في التربتين.

قبل شهر وبضعة أيام، يسقط الأبد. مشهدٌ مُصوَّر من دمشق، تخترقه صرخة تاريخية من قلب المدينة: بشار الأسد سقط. أشاهد الفيديو من منزلي في ألمانيا. يرتعشَ جسدي، وتنكشطُ طبقة تلو طبقة عن روحي؛ الغربة والهزيمة واليأس. تصعد أول مظاهرة شاركت فيها في الميدان في دمشق إلى قمة وعيي: الهتافات، الشرارات، والرصاص. في لحظة أشعر بالانفتاح الكامل على هبة 2011، طالبة البكالوريا في سوريا التي تبخّ كلمة حريّة بالدهان على الجدران، وتتجرأ أن تكتب على مدونتها ما يحدث في مدينتها، ويأكلها الخوف طيلة الليلة التي تلي ذلك. ثم أشعر بالانفتاح على كل نُسَخي، قبلها وبعدها.

تتجمّعُ قطع البازل المبعثرة، وأشعرُ بالانكشاف على ذاتي والانفتاح على العالم. لم يسبق لروحي أن تفتّحت بهذا العمق وهذا الكشف. تراخت ركبتاي تحتي، وتصافحت نُسَخي السابقة كلها وتصالحت مع كُلّي. أنا وطفولتي وغربتي ولحظة الثورة المرارة والهزيمة والمنفى ودورات الاندماج والجامعة والانتماء وعدمه. والكتابة طويلاً تحت اسم مستعار.

هذا هو نصّي الأوّل بالعربيّة باسمي الحقيقيّ: هبة القادري، بعد سنوات من الاختباء وراء أسماء مستعارة.

مقالات مشابهة
باص 121 في محطة غريمار
04.04.2024 الكتابة الإبداعية
باص 121 في محطة غريمار
لمياء أبو الخير
منذ وضعت قدمي هنا، في البلد الجديد، وأنا أحلم بهناك الذي لم أح

Continue Reading

Previous: سفيرة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا لصحيفة “بوست” المصدر :https://www.jpost.com/middle-east/article-840032
Next: بغداد تدرس خطوة رسمية إزاء دمشق… والمالكي يحذر من «السيناريو السوري» الحكومة السورية تتحدث عن خطوات لتفعيل «البوكمال»المصدر: الشرق الاوسط

قصص ذات الصلة

  • مقالات رأي

نصف انتصار ونصف خسارة فرضا وقف النّار فادي الأحمر…. . المصدر:اساس ميديا

khalil المحرر يونيو 25, 2025
  • مقالات رأي

“يد يلتسين إلى دمشق: درس “السوبر رئاسية” الروسية لسوريا ما بعد الأسد بقلم: ديميتري بريجع

khalil المحرر يونيو 25, 2025
  • مقالات رأي

الزلزال الممنهج: أنقرة لا تملك رفاهية الحياد! سمير صالحة…….المصدر:اساس ميديا

khalil المحرر يونيو 25, 2025

Recent Posts

  • نصف انتصار ونصف خسارة فرضا وقف النّار فادي الأحمر…. . المصدر:اساس ميديا
  • “يد يلتسين إلى دمشق: درس “السوبر رئاسية” الروسية لسوريا ما بعد الأسد بقلم: ديميتري بريجع
  • الزلزال الممنهج: أنقرة لا تملك رفاهية الحياد! سمير صالحة…….المصدر:اساس ميديا
  • الرّدّ الإيرانيّ على “العديد”: تفاصيل السّاعات الأخيرة ابراهيم ريحان…المصدر:اساس ميديا
  • النّظام الإيرانيّ… أو الحياة من دون مشروع توسّعيّ ….. خيرالله خيرالله…المصدر:اساس ميديا

Recent Comments

لا توجد تعليقات للعرض.

Archives

  • يونيو 2025
  • مايو 2025
  • أبريل 2025
  • مارس 2025
  • فبراير 2025
  • يناير 2025
  • ديسمبر 2024
  • نوفمبر 2024
  • أكتوبر 2024
  • سبتمبر 2024
  • أغسطس 2024
  • يوليو 2024
  • يونيو 2024
  • مايو 2024
  • أبريل 2024
  • مارس 2024
  • فبراير 2024
  • يناير 2024
  • ديسمبر 2023
  • نوفمبر 2023
  • أكتوبر 2023

Categories

  • أدب وفن
  • افتتاحية
  • الأخبار
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • حوارات
  • دراسات وبحوث
  • مقالات رأي
  • منوعات

أحدث المقالات

  • نصف انتصار ونصف خسارة فرضا وقف النّار فادي الأحمر…. . المصدر:اساس ميديا
  • “يد يلتسين إلى دمشق: درس “السوبر رئاسية” الروسية لسوريا ما بعد الأسد بقلم: ديميتري بريجع
  • الزلزال الممنهج: أنقرة لا تملك رفاهية الحياد! سمير صالحة…….المصدر:اساس ميديا
  • الرّدّ الإيرانيّ على “العديد”: تفاصيل السّاعات الأخيرة ابراهيم ريحان…المصدر:اساس ميديا
  • النّظام الإيرانيّ… أو الحياة من دون مشروع توسّعيّ ….. خيرالله خيرالله…المصدر:اساس ميديا

تصنيفات

أدب وفن افتتاحية الأخبار المجتمع المدني الملف الكوردي حوارات دراسات وبحوث مقالات رأي منوعات

منشورات سابقة

  • مقالات رأي

نصف انتصار ونصف خسارة فرضا وقف النّار فادي الأحمر…. . المصدر:اساس ميديا

khalil المحرر يونيو 25, 2025
  • مقالات رأي

“يد يلتسين إلى دمشق: درس “السوبر رئاسية” الروسية لسوريا ما بعد الأسد بقلم: ديميتري بريجع

khalil المحرر يونيو 25, 2025
  • مقالات رأي

الزلزال الممنهج: أنقرة لا تملك رفاهية الحياد! سمير صالحة…….المصدر:اساس ميديا

khalil المحرر يونيو 25, 2025
  • مقالات رأي

الرّدّ الإيرانيّ على “العديد”: تفاصيل السّاعات الأخيرة ابراهيم ريحان…المصدر:اساس ميديا

khalil المحرر يونيو 25, 2025

اتصل بنا

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter
  • Youtube
  • Pinterest
  • Linkedin
  • الأرشيف
Copyright © All rights reserved. | MoreNews by AF themes.