خريطة إيران وعلمها

يتضمّن موقف المرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، الرافض مشاركة بلاده في الحرب دعما لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في تصدّيها للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة تأكيدا على أولوية المصالح الاستراتيجية للدولة الإيرانية. وهو ما سعى وزير الخارجية، حسين أمير عبد اللهيان، إلى شرحه وتوضيحه بصيغ وعبارات عديدة، ودافع عنه كل من رئيس البرلمان الأسبق والمنسق الأبرز لمواقف التيار المحافظ والمعروف بمدى قربه من المرشد الأعلى ودوائر القرار في الدولة العميقة ومنظومة السلطة، غلام رضا حداد عادل، ووزير الخارجية السابق، محمد جواد ظريف.

أخذت القيادة الإيرانية، بعد التهليل لعملية طوفان الأقصى والإشادة بحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، مسافة عن العملية بالقول “إنها لم تكن طرفا في التحضير للعملية أو تنفيذها”؛ ووسّعت المسافة تاليا بإعلانها “أن ما تقوم به حركات المقاومة لا يتم بتعليمات إيرانية بل بقرار ذاتي لهذه الحركات”. وأعلنت مرارا أنها ضد توسيع الحرب وتحويلها إلى حرب إقليمية، وهو ما أكّده أمين عام حزب الله اللبناني، حسن نصرالله، في خطابين له حدّد خلالهما دور الحزب في الحرب بدور المساند.

تعاطت القيادة الإيرانية مع فرصة وفرتها “حماس” لمحاربة إسرائيل بطي تهديداتها السابقة بـ “محو” إسرائيل و”تدمير” إسرائيل و”إزالة” إسرائيل من الوجود، وفق أقوال قادتها السياسيين والعسكريين، واكتفت بالتنديد بالعدوان الإسرائيلي وبالقصف الوحشي الذي استهدف المدنيين بقصف مساكنهم وتدميرها فوقهم وقصف البنى التحتية المدنية من المشافي إلى الأفران والأسواق ودور العبادة في قطاع غزّة واقتحامات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين مدن الضفة الغربية وبلداتها ومخيّماتها وقتل الفلسطينيين وتدمير ممتلكاتهم وإتلاف حقولهم. تراجعت النبرة القوية والحاسمة وأفسحت المجال للغة المساومات وللعمل على حجز موقع في إدارة الأزمة عبر الانخراط في حركة دبلوماسية نشطة، بالموافقة على حلّ الدولتين الذي نصّ عليه بيان القمة العربية الإسلامية، والإعلان عن الاستعداد للتوسّط في حل مشكلة الأسرى والرهائن، والدعوة إلى التهدئة ووقف إطلاق النار في استثمار لمناخ الحرب وتعقيداته لكسر عزلتها الدولية، من جهة، وللحفاظ، من جهة أخرى، على المكاسب الجيوسياسية التي حقّقتها في العقدين الماضيين، وتثقيلها بمنع إسرائيل من تحقيق هدفها المعلن: القضاء على حركة حماس، بالضغط من أجل وقف إطلاق النار عبر التلويح بخطر توسّع الحرب وتمدّدها خارج قطاع غزّة على خلفية الغضب والاستفزاز في العالمين العربي والإسلامي الذي استثاره التوحّش الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين، وما ترتب عليه من قيام حركات المقاومة بعمليات ضد أهداف إسرائيلية من جنوب لبنان نفّذها حزب الله، شنّ بين 7 أكتوبر/ تشرين الأول و14 نوفمبر/ تشرين الثاني ما يقرب من 170 هجوماً باستخدام أسلحة مضادّة للدبّابات ومدفعية وصواريخ ومسيّرات. وإطلاق حركة أنصار الله الحوثية مسيّرات وصواريخ باليستية وكروز من اليمن نحو منطقة إيلات واحتجازها سفينة شحن مالكها إسرائيلي، واستهداف مليشيات موالية لإيران قواعد أميركية في سورية والعراق باستخدام الصواريخ والقذائف والمسيّرات، ما يقرب من 77 هجوماً شملت 43 غارة على قواعد أميركية في سورية و34 غارة في العراق، واستهداف سفينة إسرائيلية بمسيّرة شاهد- 136 إيرانية الصنع في المحيط الهندي.

بقي الموقف الإيراني العازف عن المشاركة في الحرب، رغم عدم تحقيق هدفها المعلن: وقف إطلاق النار لمنع هزيمة “حماس”، حيث استمرّ القصف الإسرائيلي الوحشي مستهدفا البشر والحجر وتقدّم الهجوم البرّي في شمال قطاع غزّة؛ واستمرّ التأييد الأميركي للهجوم الإسرائيلي على القطاع مع رفضه وقف إطلاق النار حتى تحقيق هدف إسرائيل من الحرب بالقضاء على “حماس”.

ارتبط تغيّر الموقف الإيراني بتقديرات القيادة للفرص والمخاطر التي تنطوي عليها مشاركتها في الحرب، في ضوء الاصطفاف الغربي الشامل خلف إسرائيل وتبنّي روايتها عن الحرب وحقّها في الدفاع عن نفسها وحشده قوات كبيرة شرق المتوسط، لردع أي محاولة لدعم “حماس” بفتح جبهات أخرى، أرسلت الإدارة الأميركية حاملتي طائرات بـ 7500 جندي ومقاتلات إف- 16 وإف- 15 وإف- 35 وإي- 10 وأكثر من 1200 جندي من المارينز وغوّاصة نووية، وحاملة طائرات وغوّاصة نووية إلى الخليج العربي، وبطاريات باتريوت إلى الأردن والعراق والكويت والإمارات والسعودية ونظام ثاد إلى المنطقة، إلى جانب أكثر من 45000 جندي موجودين في المنطقة، ووضعت الأسلحة الأميركية المخزّنة في إسرائيل تحت تصرّف الجيش الإسرائيلي ومدّته بالذخائر الدقيقة وبصواريخ للقبّة الحديدية، بالإضافة إلى قطع بحرية بريطانية وفرنسية، ما جعل المشاركة الإيرانية الفعّالة في الحرب بالوكالة بقوات حركات المقاومة أو بحربٍ مباشرة بقوات إيرانية خطيرة في مستويين: مستوى ضرب حركات المقاومة، خصوصا حزب الله، ما يعني انهيار استراتيجية حماية الأمن القومي الإيراني القائمة على ردع أيّ عدوانٍ على الأرض الإيرانية، خصوصا الأميركي لتغيير النظام، بتهديد الأمن الإسرائيلي بقوى وكيلة وموارد عسكرية كبيرة نشرتها في دول الجوار المحيطة بإسرائيل. ومستوى استهداف الأرض الإيرانية بقصف البنى التحتية والاقتصادية والعسكرية، بما في ذلك النووية، وتحويل إيران إلى دولةٍ ضعيفةٍ ومهشّمة.

انسجم التوجّه الإيراني الجديد مع موقف الإدارة الأميركية من الحرب الإقليمية، مع تباين في الدوافع والأهداف، فواشنطن تتوجّس من انفجار حربٍ إقليمية، لأنها ستضطر للمشاركة فيها دعما لإسرائيل، وتبعاتها على المشهد الدولي واحتمال تحولها لمصلحة خصومها الصين وروسيا وترجيح كفّتيهما في التنافس معها، فهما تتطلعان إلى غرق الولايات المتحدة في حربٍ إقليمية تلحق بها خسائر، فتفقد جزءا من قوة ردعها وتضطرّها لتخفيف العداء لهما، في حين تتوجّس إيران من حرب إقليمية، لأنها قد تؤدّي إلى القضاء على حزب الله، أداتها واستثمارها الرئيس في ردع أي هجوم إسرائيلي أو أميركي على أراضيها، واستهداف بنىً تحتية نووية وعسكرية واقتصادية فيها، ما دفع الإدارة الأميركية إلى كبح جماح إسرائيل وضبط اندفاعها لمهاجمة حزب الله، وجعل تجنّب استفزاز الولايات المتحدة وجرّها إلى الحرب هدفا للقيادة الإيرانية، بالإعلان أنها لا تنوي المشاركة في الحرب، وتأكيد ذلك بإعلان سفير إيران ومندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة، أمير سعيد إرافاني، في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، أن بلاده لم تشارك قط في أي عملٍ أو هجومٍ ضد القوات الأميركية في سورية والعراق، والتزام حزب الله اللبناني بقواعد الاشتباك المعمول بها مع إسرائيل، ومعايرة المليشيات الموالية لإيران في سورية والعراق شدّة هجماتها وتوقيتها، بحيث تكون عند سقفٍ محدّدٍ لا يستدعي التصعيد والانتقام الأميركيين، وإعلان حزب الله التزامه بالهدنة المعلنة بين إسرائيل و”حماس”، مع أنه لم يكن طرفا في المفاوضات بشأنها، كما لم يُذكَر طرفا تشمله هذه الهدنة، ذلك لأن مواصلته القتال ستمنح إسرائيل المبرّر للهجوم عليه وتدمير قدراته القتالية واستهداف الضاحية الجنوبية في بيروت والبنى التحتية والاقتصادية في لبنان، ما سيدفع إلى تدخّل إيراني حماية للحزب، وإلى مواجهة أميركية إيرانية بالتالي.

غير أن التوافق الأميركي الإيراني على تجنّب التصعيد والحرب الإقليمية لم يلغ احتمال وقوعها في ضوء إعلان الرئيس الأميركي، بايدن، أن الهدف من عملية طوفان الأقصى كان ضرب مشروع ممرّ المتوسط، الذي اتفق عليه في قمة العشرين في الهند، مشروع لربط الهند بأوروبا عبر مسارين، بحري من الهند إلى السعودية والإمارات، وبرّي من السعودية والإمارات إلى ميناء أشدود في إسرائيل مرورا بالأردن، ما يعني أنها استهدفت المصالح الأميركية، في تلميحٍ إلى هدف إيراني روسي صيني، ما يعني أن واشنطن لن تقبل نتيجة للحرب الدائرة سوى هزيمة “حماس” وصياغة الإقليم وفق منظورها، بما في ذلك تنفيذ مشروع ممرّ المتوسط، وإصرارها، بالتالي، على دعم العدوان الإسرائيلي، بالإبقاء على الضوء الأخضر الأميركي، حتى تحقيق أهداف إسرائيل من الحرب، ما سيضع إيران أمام خيارين صعبين: الانزلاق نحو حربٍ شاملةٍ وخسارة قوتها الرادعة المتمثّلة في حزب الله والمليشيات العراقية، مع احتمال أن تطاول الحرب أراضيها وتلحق بها دمارا يزيد من معاناة الإيرانيين الحياتية، أو الاستسلام للضغوط الأميركية والتسليم بهزيمة “حماس”، ما يعني انهيار محور المقاومة وخسارة مكاسبه الجيوسياسية في الإقليم لمصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل. ما سيرتّب انحسار نفوذها في الإقليم ودفعها إلى العودة إلى حدودها الطبيعية والالتزام بسياسة الدولة واستحقاقاتها.